تاريخ

حمص مرصودة

الساعة-الجديدة-في-حمص

في مدينة حمص أسطورة خاصة من التراث الشعبي، هي أسطورة الرصد. فعبارة حمص مرصودة سمعناها ونسمعها إلى الآن لكن القليل من يعرف ما هو الرصد ولمن هي مرصودة. فتقال عبارة ” حمص مرصودة ” بالمفهوم الشعبيّ، إذا كان اثنان أو أكثر يتبادلان الحديث حول شخص غائب معروف لديهما وفور انتهاء الحديث أو خلاله يحضر هذا الشخص فينظران لبعضهما مع ابتسامة مدهشة ويقولان عندها: حمص مرصودة.

فما معنى هذه العبارة وما علاقتها بالأسطورة ومنشؤها وتفسيرها العلمي؟

لقد انتشرت هذه الأسطورة التي تنفرد بها مدينة حمص من بين مدن العالم وتعود معها إلى عقود التاريخ القديمة والتي تعني بحقيقة الأمر أن حمص مرصودة من العقارب (أي لا يعيش فيها ولا يدخلها عقرب). فشخَّصَ الفنانون في المنطقة العقرب في منحوتاتهم كرمز لربّة القضاء والقَسَمْ ويُعتَقَد أن عبادة الإله العقرب Scorpion في المنطقة من الرموز القبلية البدائية واستمرّت عبادته رغم سيطرة الآلهة الكُبرى، وظهر العقرب بكثرة في النقوش الآرامية (1) حيث يرى البعض أن الآراميين في وسط سورية قد أخذوا عبادة العقرب عن بلاد الرافدين، كما نجده أيضاً في المنحوتات الهلنستية، وتنعدم تقريباً رموز العقرب في المنحوتات الرومانية في المنطقة، حيث نجد أن الشمس المُجنّحة قد حلّت مكانه لأن حمص كانت مركز عبادتها وفيها معبدها الوثني الأكبر (معبد شمس). وخلال العصر البيزنطي وظهور رموز المسيحية فيها كالصليب، ظل العقرب يظهر كشكل تزييني مع بعض الكتابات المحلية. ومن المُلاحظ هنا أن انتشار الديانة المسيحية قد ألغى العبادات الوثنية لكن العقرب فقط حافظ على وجوده في حمص من خلال أسطورة الرصد والتي جسَّدها نقشُ بارز للعقرب على حجر مُثَبّت في جدار كنيستها الكُبرى والذي ربما كان من مخلّفات المعبد الوثني القديم الذي قامت مكانه الكنيسة.

وبعد الفتح العربي ورغم تحوّل الكنيسة إلى مسجد (حالياً جامع النوري الكبير) بقي الحجر مكانه لفترة (2) وعُثِرَ في حمص أيضاً على (طبعة ختم اسطواني، نقش عليه الربّة العقرب وشخص يتعبّد لها والختم يعود لأواسط الألف الثاني قبل الميلاد) وهكذا انتشرت الأسطورة لتعم الدولة العربية من مشرقها إلى مغربها، كظاهرة فريدة تختص بها حمص.

يذكر الإدريسي (3) في كتابه (نزهة المشتاق): ” … ومدينة حمص مُطلسمة لا يدخلها عقرب، ومتى دخلت على باب المدينة هلكت في الحال، ويُحْمَلُ من ترابها إلى سائر البلاد، فيوضع على لسعة العقرب فتبرأ”

ويقول القزويني في كتاب (عجائب المخلوقات): لا يكاد يلدغ بها عقرب ولو غسل ثوب بماء حمص لا يقرب عقرب لابسه”.
بعد انتهاء عهد الأسطورة وانتشار العلم والمعرفة وجدنا محاولات لإعطاء تفسير علمي لعدم وجود عقارب في حمص، فيأتي الخوري عيسى أسعد فيذكر في كتابه:(تاريخ حمص الجزء 1) فيقول: “إن منشأ هذا الاعتقاد فيما أرى أن تربة حمص غير صالحة لبيوض العقارب. وهذا سرّ فقدان العقارب فيها” ثم حاول البعض أن يُوَضّح السبب بشكل علمي فأضاف: أن وجود نسبة من الزئبق في تربة حمص هي السبب الحقيقي في اختفاء العقارب منها.
فالعقرب يُعْرَفُ في كلّ أنحاء العالم كرمز للقوة الغادرة. وعدم وجوده في مكان ما يعني انعدام الغدر منه وانتشار المحبة والوداعة والطيبة وهي صفات عُرِفَتْ بها حمص بأسطورة رصد العقارب أو بدونها. فهذه الأسطورة تُعطي رمزاً معنويّاً كبيراً لهذه المدينة.

المفردات:
(1) ـ يحتفظ متحف حمص بآناء فخاري (جرّة) من العهد الآرامي يظهر عليه رسوم ميثولوجية للعقرب.
(2) ـ هو عبارة عن ناووس (تابوت حجري) من الحجر البازلتي الأسود. كان موجوداً في صحن الجامع النوري الكبير، وهو يُمَثِّل عقربين بينهما قرص الشمس وفوقهما شكل عين. وهي رموز وثنية وهذا النقش يعود للفترة الرومانية.
(3) ـ الإدريسي: هو أبو عبد الله المعروف بالشريف الإدريسي (1100 ـ 1165 ) رحالة وُلِدَ في سبته، درس في قرطبة وبرع في الهيئة والجغرافيا والطب والحكمة والشعر طاف في بلاد الروم واليونان ومصر والمغرب وفرنسا وبريطانيا. دعاه روجيه
ملك النورمند لزيارة صقلية فرسم له الإدريسي ما عاينه من البلدان على كرة من فضة. من مؤلفاته: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق والجامع لصفات أشتات النبات.

المهندس جورج فارس رباحية

عن الكاتب

جريدة حمص

جريدة حمص أول صحيفة صدرت في مدينة حمص – سوريا عام /1909/ عن مطرانية الروم الأرثوذكس لتكون لسان حال المدينة.

اترك تعليقاً