رحلــة فـي القطـار
إن معظم المؤرخين والرحالة العرب وغيرهم وصفوا مدينة حمص عندما مرّوا بها حيث كان ياقوت الحموي، أما الآن فهو المؤرّخ عيسى اسكندر المعلوف (1) الذي قام برحلة من زحلة إلى حلب بين 17و 30 آب 1909 مستقلاً القطار واصفاً بأسلوبه الجميل كافة المواقع والقرى والبلدان والمدن التي مرَّ بها القطار، نقتطف منها ما يخص منطقة حمص:
ونبدأ عندما نهب القطار الأرض بسرعته الغريبة فرأيت عن يميني أطلال مدينة جوسة وهي التي اشتراها السلطان كتبغا لمّا قدم دمشق سنة 1295م وصار إلى حمص فجدّد بناءها لأنها أخربة خالية. ومقابلها الآن إلى اليسار جوسة العامرة وهي فيها دير قديم للقديس الياس النبي.
ثم بدأت بحيرة حمص تنجلي للعين كأنها مرآة تنظر فيها السماء وجهها وهي سدّ قديم حصرت فيها مياه العاصي حتى أُصعدَت إلى مدينة حمص لسقاية أرضها، وهناك يرى الناظر عظمة الأقدمين وعنايتهم بالزراعة وبناء السدود، وقد عرفها التاريخ ببحيرة قدَس أي المقدسة وببحيرة حمص والمرجّح أن حمص كانت تسمى قدَس قديماً، وقرب هذه البحيرة جبل أكروم وهو فرع من جبل عكّار إلى الجنوب الغربي من حمص وهناك وادي خالد وهو مضيق ينفذ منه إلى تلك النواحي، ومعدّل طول هذه البحيرة نحو خمسة كيلو مترات بعرض أربعة.
وسدّها مبني من أسفله بعرض عشرين متراً إلى أن ينتهي بستة، ومعدّل علوّه نحو سبعة أمتار وفيها أسماك لذيذة الطعم وعليها قرى يرتزق سكانها من صيدها ولما دنونا منها رأيتها:
بحيرة للعــيون تبدو في غاية الحسن والصفاء
كأنها إذا صفت وراقت في الأرض جزء من السماء
وفي شماليها جزيرة صغيرة تسمى تل التينة كانت حصناً نازله رعمسيس الثاني كما هو منقوش في هيكل الأقصر بمصر وكان ذلك في القرن الخامس عشر قبل المسيح، وصحبه شاعره بنتاؤور فوصف تلك الموقعة نظماً. وحدثت قرب هذه البحيرة معارك شديدة أهمها موقعة الحثيين ومحاليفهم مع شلمناصر الثالث ملك آشور آخر موقعة حدثت هناك بين إبراهيم باشا المصري وبين العساكر العثمانيين سنة 1832 م.
ثم أشرف القطار على مدينة حمص (ومعنى اسمها المقدسة) وكانت فيها قديماً عبادة عزيز الآله السامي المتصلة بالشمس فسميت مقدسة وكان له فيها هيكل فخيم وعُدّت هذه المدينة قبل دمشق مدة طويلة قصبة ولاية فينيقية اللبنانية، ولما فتحها العرب قسموا سورية إلى أعمال كانت حمص جنداً لها وأدخلوا تحت حكمها مدينتي حماه وقلعة المضيق (أفاميا) لأنها كانت من أكبر مدن سورية في وسطها الشرقي . وقد ذهب بعض سكانها إلى الأندلس فنزلوا مدينة أشبيليا فسمّيت حمص الأندلس ومن لطيف وصفها قول أبي جعفر الألبيري البصير نزيل حلب :
حمص لمن أضحى بها جنة يدنو لديها الأمل القاصي
حلّبها العاصي ألا فاعجبوا من جنة حلّبها العاصي
وأراضيها فسيحة خصيبة تعطي نحو ألف مُدْ من الحبوب المختلفة وهواؤها جيد وهي مشهورة بمنسوجاتها وبكثير من الأُسَر والعلماء الذين نبغوا بالآداب. وفيها قلعة كبيرة خربة.
ولما جاوز بنا القطار حمص حتى أستشرفنا على جانبيه كثيراً من القرى الهرميّة الأبنية من اللبْن تتخللها خيام العربان التي منها الفواعرة والعكيدات والنْعيم والمعاجير. ثم رأينا صحاري البطيخ الكبير الحجم الصقيل القشر وتمثّلت لنا عن يميننا جبال قُرن الحجل أو قرون حماه وعندها قرية الرستن المشهورة ببطيخها اللذيذ وهي كبيرة سكانها اليوم مسلمون يتخللها العاصي وسمّيت قبلاً (لاريصة الشام) وكان أسقفها ملاتيوس الذي صار بطريرك أنطاكية في القرن الرابع للميلاد.
وهنا نترك مؤرخنا يتابع رحلته إلى حماه فحلب.
المهندس جورج فارس رباحية
المفـردات :
(1) عيسى اسكندر المعلوف ( 1868- 1956) مؤرخ لبناني عضو المجامع العلمية في مصر , دمشق , بيروت , البرازيل . من مؤلفاته ( تاريخ الأسَر الشرقية )
و( تاريخ الامير فخر الدين )
(2) ( النعمة ) مجلة نصف شهرية كانت تصدرها البطريركية الأنطاكية الأرثوذكسية
المصادر:
ـــ مجلة النعمة الجزء 8 السنة 1 30/9/1909
ـــ مجلة النعمة الجزء 17 السنة 1 15/2/1910
ـــ مجلة النعمة الجزء 18 السنة 1 27/2/1910
شكرا لكم
احلى ذكرى من أرشيف الجريدة الذي لا ينضب