بعد إطلاقه، في الحلقتين السابقتين، تسمية “الوحدة في التنوع” على فلسفته وتحليله مفهومَي التعدد والوحدة، اقترح الفيلسوف أديب صعب ما سمّاه “العلمانية المعتدلة” نظاماً للحكم كفيلاً بتحقيق القيم الاجتماعية، وفي طليعتها الحرية والعدالة واحترام كرامة الإنسان والسلام. واعتبر الدولة التي تتبنى هذا النظام “الدولة الدينية الفعلية” تمييزاً لها عن “الدولة الدينية الاسمية”.
في الحلقة الثالثة والأخيرة من بحثه، يطبّق الدكتور أديب صعب نظرته على الدين، فيجد أن ثمة هوية فطرية، روحية يتلاقى حولها الناس، يسمّيها “الهويّة في الاتّفاق”، يجدر النظر في ضوئها إلى هويّاتنا المتنوّعة. وإذ يغدو المؤتلف ركيزةً للمختلف، نخطو نحو السلام الذي لا يستمر مجتمع بدونه.
أخيراً، يمكن اختصار فلسفة الوحدة في التنوع هكذا: كل تعدد بدون وحدة يَؤُول إلى فوضى وتَهافُت. كل وحدة تتغاضى عن التنوع هي فَرض مبادئ تعسفية تجافي القيم العليا. الحل المثالي هو تحقيق الوحدة في التعدد.
لاهوت التنوّع ولاهوت الوحدة
لا يقف مفهوم التنوع والوحدة كما أطلقتُه في فلسفتي عند الأفكار الاجتماعية والسياسية، بل هو في أساس فلسفتي الدينية ونظرتي إلى اللاهوت أو علم الكلام. وقد أَعطيتُ الكتاب الرابع في خُماسيّتي في فلسفة الدين عنوان “وحدة في التنوّع”. الفصل الأخير من هذا الكتاب يحمل عنوان “لاهوت التنوع ولاهوت الوحدة”. انطلاقاً من تحديد اللاهوت بأنه الدفاع عن دين معين، كالمسيحية والاسلام والهندوسية والبوذية، وتفسير عقائده، قلتُ إن هناك نوعين كبيرَين من الدفاع، سمّيتُهما الدفاع السِّجالي والدفاع الايجابي. في الدفاع الايجابي يَبْسط المدافع عقائد دينه من غير المفاضلة بينها وبين عقائد الأديان الأُخرى. أما الدفاع السِّجالي فمبنيٌّ على أفكار من نوع: “نحن خيرُ الأنام”، أو: “نحن خير أُمّة [جماعة دينية] أُخرِجَت للناس”، أو: “سوانا في بعض الحقّ ونحن في الحقّ كله”، أو: “نحن في الحق وسوانا في الباطل”. طالما جَرَّت هذه الأفكار -التي ابتُلِيَ بها الكثير من الفكر اللاهوتي في كل الأديان، وحتى في المذاهب داخل الدين الواحد، خلال قرون طويلة -البغض والعداء والعنف بين الأفراد والجماعات. وهذا يخون قضية الدين القائمة على الخير والمحبة والسلام، علماً أن السلام من أسماء الله أو من صفاته.
هذا من ناحية “لاهوت التنوع”. أما “لاهوت الوحدة” فيجب، كما أرى، أن يكون أساساً لكل فكر لاهوتي مختص بهذا الدين أو ذاك. إنه الدفاع – والعبارات دائماً لي – عن “الدين من حيث هو دين”، أي عن “الدين في الأديان”. وهذا يشير إلى العناصر المشتركة بين الأديان، وهي تلك التي تتيح لنا أن نصنّف نظاماً معيناً ضمن الدين. وقد سمّى بعض مؤرخي الدين وفلاسفته، مثل رودولف أُوتو(18) ونينيان سمارت(19)، هذه العناصر، كل حسب مصطلحه، مع اختلاف في الأسماء واتّفاق عامّ على المحتوى.
وفي خلاصة كتابي “الأديان الحيّة”، التي استعملتُها مقدمةً لكتابي التالي “المقدمة في فلسفة الدين”، توصلتُ، بناءً على دراساتي الشخصية في الموضوع، إلى التعبير عن العناصر المشتركة التي تجعل من نظام معين ديناً على هذا النحو(20): (1) هذا العالم المادي الظاهر لا كيان له ولا قيمة في ذاته ومن ذاته، بل يستمد كيانيته ومعناه وقيمته من حقيقة روحية مطلقة تقوم وراء الظاهر. وهدف الدين هو وصل ما انفصل، أي إعادة هذا العالم النسبي المحدود إلى الحقيقة المطلقة اللامحدودة التي انفصل عنها. (2) لو اقتصر الدين على هذا الاعتراف اللفظي النظري لما اختلف عن الفلسفة. بل هناك وسائل لوصل المحدود باللامحدود، هي ممارسات رمزية تسمَّى الطقوس. من هذه الطقوس الصلاة والصوم وزيارة الأماكن المقدسة والاحتفالات والأعياد. ونسمّي من المسيحية المناوَلة ومن الإسلام رَمي الشيطان بالجمرات. (3) هناك شرط آخر لتقريب المحدود من اللامحدود، هو الأخلاق. كل الأديان تضع مبادئ للحياة الفاضلة. وإذ نجد فلسفات خُلقية مستقلة عن الدين، فليس هناك دين من غير قواعد خُلقية. لدينا، إذاً، أخلاق الإنسان العادي وأخلاق الإنسان المؤمن. وإذا قارَنّا بين النظرتين، لوجدنا الأخلاق الدينية قائمة على الجهاد النفسي والسعي إلى الكمال. (4) في سَعيِه إلى الكمال، يقتدي المؤمن أوّلاً بمؤسس دينه. ففي المسيحية يسوع المسيح، وفي الإسلام النبي محمّد، وفي البوذية غوتاما، وفي الزردشتية زردشت. وفي المسيحية كتاباتٌ عن “محاكاة المسيح”، وفي الإسلام كتاباتٌ عن النبي محمّد مثالاً للانسان الكامل. (5) على مستوى أدنى من المؤسسين تأتي طبقة القدّيسين في المصطلح المسيحي والأولياء في المصطلح الإسلامي. وفي كل الأديان، هؤلاء جماعة من الأبرار الذين استطاعوا محاكاة المؤسس إلى أبعد حد. لذلك يصبحون قدوةً أو مثالاً أعلى يشدّد المؤمن في سعيه إلى كمال الحياة الروحية، إذ كانوا أُناساً عاديين مثله قبل تحقيقهم أعلى درجات القداسة.
غنيٌّ عن القول أنّ كل دين يعبّر بطريقته الخاصة عن كل من العناصر المشتركة التي لاحظناها. لكن يبقى أن الشبه الوظيفي بين الأديان الذي تختصره هذه العناصر يشير إلى وحدة قوية هي ما يسمّى جوهر الدين. هذا يعني أن ما يحاول المؤمن بلوغه عن طريق دينه يحاول كل من ذوي الأديان الأُخرى بلوغه عن طريق دينه هو. وبما أن ما سميناه “الدين في الأديان” ليس ديناً بعينه ولا يحاول الحلول مكان أي دين، فهو ليس “الدين الموحَى” بل “الدين الفطري”، أي دين العقل السليم. ويمكن أن نسمّي اللاهوت الذي ينشأ حول هذه العناصر المشتركة “لاهوت الوحدة” تمييزاً له عن “لاهوت التنوُع”.
هكذا نجد أنفسنا أمام ثلاثة نماذج دفاعية تشكل، في الوقت نفسه، ثلاثة أنماط من اللاهوت: (1) النمط السِّجالي يرى أن تحديد الهوية الدينية لجماعة معينة لا يقوم إلا بإقامة التحديات في وجه الأديان والمذاهب الأُخرى أو مواجهة هذه التحديات. (2) النمط الإيجابي يحاول تحديد الهوية الدينية عبر عرض مبادئ دينه وتفسيرها وتبريرها بعيداً عن نزعة المفاضلة أو النزعة الإلغائية حيال الأديان الأُخرى. (3) النمط الفلسفي يذهب إلى أن ثمة شرطاً ضرورياً للدفاع عن أي دين بعينه، هو الدفاع عن المفهوم الديني المحوَري، أي عن فكرة الأُلوهة أو الحقيقة المطلقة. في غياب هذا النوع من الدفاع، من السهل جداً النظر إلى مؤسسي الأديان كما لو كانوا محض معلّمي أخلاق ومصلحين اجتماعيين، فيغدو المسيح مثل سقراط، والنبي محمّد مثل كارل ماركس، وتُنزَع عن الدين سِمَته الأساسية عبر خَفْضه إلى أخلاقٍ خالصة.
إنّ دعوتَنا إلى ما سمّيناه لاهوت وحدة ليست سعياً إلى تأسيس دين مصطنَع أو إقامة وحدة تعسفية عبر فرض أحد الأديان على الناس. وإنْ أمكن هذا الفرض، فهو لن يتحقق إلا بالعنف، ولن يدوم طويلاً إذ سرعان ما سينقسم الدين المفروض عنوةً إلى مذاهب. وقد توزّعَ المؤمنون على الأديان والمذاهب المختلفة. وما دعَونا إليه من لاهوت وحدة ليس محاولة لإبطال لاهوت التنوع، لكنه تحذير من انحدار هذا اللاهوت إلى لاهوت خلاف بدلاً من أن يكون لاهوت اختلاف. وطالما حصل هذا الأمر، مع ما يستتبعه من تنابُذ على الصعيدَين النفسي والاجتماعي، يخون قضية الدين التي هي قضية محبة وعدل وسلام.
الهوية الخاصة التي يحاول لاهوت التنوع الدفاع عنها تتقاطع مع هويّات أُخرى تشكّل معاً هوية واحدة كبرى. وكما أن كون الشاعر كلاسيكياً أو رومنطيقياً أو رمزياً قائمٌ على كونه شاعراً، وكون المرء لبنانياً أو سورياً أو مصرياً أو مغربياً لا يلغي كونه عربياً أو واحداً من الجنس البشري، هكذا لا يلغي انتماء المؤمن إلى المسيحية أو إلى الإسلام أو إلى الهندوسية وجود جوهر واحد في العمق بين الأديان، يتجلى في نقاط التلاقي أو العناصر المشتركة التي تكلمنا عنها. لاهوت التنوع كما ندعو إليه يتخذ من لاهوت الوحدة أحد مرتكزاته الأساسية. ولاهوت الوحدة كما ندعو إليه ليس لاهوت وحدة تعسفية تقضي على التنوع. لكنه لاهوت وحدة في التنوع.
ولئن كان لاهوت التنوع يرتكز إلى ما سميناه النمط الإيجابي من الدفاع، فهذا يلتمس النمط الفلسفي الذي يميز لاهوت الوحدة. باعتماد هذين النمطين من الدفاع، يمكن تصحيح المغالطة التي بُني عليها مقدار كبير من اللاهوت التقليدي، وهي الاقتصار على الدفاع السجالي بالمعنى الإلغائي. إن التصحيح المنشود في الفكر الديني يحصل بتبنّي نظرة متكاملة إلى الدفاع، تبدأ بالنمط الفلسفي، وتنتقل منه إلى النمط الإيجابي محاوِلةً الاكتفاء به، ولا تلجأ إلى النمط السجالي إلا إذا أساء الآخرون فهمنا أو تجنّوا علينا.
هكذا ننتقل من اللاهوت السجالي، الذي ساد طويلاً بين الأديان المختلفة وداخل المذاهب أو الفرَق في الدين الواحد، إلى اللاهوت الفلسفي والايجابي: من لاهوت يقول إن ديني وحده هو الدين الصحيح أو الأصح، ويجعل هدف الحوار الديني تحويل الآخر من دينه إلى ديني، ويفهم بالتسامح نوعاً من العفو عند المقدرة، ويمارس الطقوس أشكالاً جامدة مفرغة من محتواها، ويركز على اسم جماعته مستخدماً كل وسيلة لِطَمس الأسماء الأُخرى، بما في ذلك العنف ضد الأفراد والحروب الأهلية والقومية… إلى لاهوتٍ يقول إن احتواء ديني على الحق والخير والجمال لا يعني خلوّ دين الآخر من الحق والخير والجمال، ويجعل هدف الحوار فهم الآخر في العمق انطلاقاً من الجوهر الواحد، أي الفهم القائل بأن ما أُحاول تحقيقه بواسطة ديني يحاول الآخر تحقيقه بواسطة دينه هو، وينظر إلى التسامح بمعنى المساواة الدينية، أي بمعنى أن المؤمنين يعملون، كل عبر دينه، من أجل أهداف أخيرة متشابهة، ويمارس الطقوس قاصداً جوهرها الذي هو إعادة الذات وإعادة كل النظام المخلوق إلى الحقيقة التي انبثق منها كل شيء، والسعي في كل حين إلى السلام. والسلام – تَبارَكَ الله – من أسمائه تعالى.
اقرأ أيضاً:
فلسفة الوحدة في التنوع (1)
فلسفة الوحدة في التنوع (2)
هوامش:
- Rudolph Otto, The Idea of the Holy, Harmondsworth (UK): Penguin Books, 1959 (first published in German 1917; English translation 1923).
- Ninian Smart, The World’s Religions, second edition, Cambridge: Cambridge University Press, 1998.
- أديب صعب، دراسات نقدية في فلسفة الدين، ص 38-42.
اترك تعليقاً