ظهور المسيحية في حمص:
منذ نشأة حمص عُرف سكانها بالالتزام الكبير والتمسّك بمبادئهم، وهذا جعل دخول دين جديد ومبادئ جديدة شيئاً صعباً، وكنتيجة لهذا التمسّك كانت بداية المسيحية في حمص مجهولة، بسبب التكتّم الذي كان يمارسه المسيحيون الجدد فيها توخياً للاضطهاد، فساد في تلك المرحلة النقل الشفهي للتقليد، إلا أنّ هذا التعصّب لم يحل دون أن تلمس النعمة الإلهية قلب الحمصيين بواسطة الرسولين بطرس ويوحنا الإنجيلي.
بطرس الرسول ويوحنا الإنجيلي في حمص:
بعد أن بشرا في السامرة عام 38 م، توجَّه بطرس الرسول ويوحنّا الإنجيلي إلى مدينة حمص على الرغم من تمسّكهم المعروف بمبادئهم، مدفوعين بنجاحاتهم في قرى السامرة. ففيما كانا يجتازان في أحد البساتين صادفا الفلاح خريسوموس، خريسوموس هذا تلقّى البشارة مع عائلته بفرح على مدى ثلاثة أيام من تعليم الرسولَين، وحمل على عاتقه نشر البشارة في المدينة، وكان القبول الأكبر من الطبقة العاملة الكادحة. وبعد عشرين عاماً عاد الرسول يوحنا الإنجيلي إلى حمص وسامه قسّاً للمدينة، وبعد فترة بسيطة أُرسل إلى المدينة غايوس الدربي (أع 19: 29) الذي سيم أسقفاً من نفس الرسول، فاهتمّ مع خريسوموس ببناء مكانٍ للعبادة، وكان منزل الأرملة بربارة شرق المدينة هو المكان المرجوّ، عرفت هذه الكنيسة فيما بعد باسم كنسية أرشائيا أو كنيسة بربارة، تشهد على ذلك إحدى مخطوطات دير القديس إيليان الحمصي.
ومن الرسل الذين زاروا حمص أيضاً، الرسول ميليا الذي هو أحد السبعين، اجتمع بالحمصيين، وكرز في كنيسة بربارة، وكان الحمصيون يكرزون ويسمعون الكرازة في هذا البيت.
الاضطهاد في حمص:
لم يكن هذا الانتشار المسيحي سريعاً أو سهلاً في حمص، فتمسّكهم بالوثنية العنيد كان يحول دون انتشار المسيحية بسهولة، ولكن هذا من جرّاء الانتشار البطيء ازداد عدد المسيحين وأصبح وجودهم ملحوظاً، ما أدّى إلى تحرّك التعصّب الوثني ضدّ المسيحيين، وكان مصير المسيحي -إن عُلم إيمانه- الموت لا محالة. ولم يكن الاضطهاد حمصيّ المنشأ فحسب، بل كانت حمص كسائر المدن السورية الأخرى عرضةً للاضطهادات الرومانية للمسيحيين، وقد مرّت بعض السنوات من الراحة القليلة، ولكن لا تتعدّى السنة أو الاثنتين على الأكثر. وفي كلّ مرحلة من الاضطهادات كانت تسبق مرحلة أصعب وأشدّ، ولكن كلّ مرحلة كان لها من يشدّد فيها إيمان الباقين من المسيحيين، مثل الناسك أونوفريوس، وكان عدد المسيحيين يكبر ويزداد ومنهم كليتوفون وزوجته لفكي والدي القديس الشهيد غلاكتيون.
انتعاش المسيحية في حمص:
لا أعني بانتعاش المسيحية انتهاء الاضطهاد، فعدد المسيحيين كان يزداد أكثر فأكثر، ففترة اضطهاد داكيوس سنة 250 م أعطت العديد من القديسين الشهداء من الحمصيين، ومنهم القديس الشهيد غلاكتيون وزوجته الشهيدة إبستيمي، وقبيل هذا الاضطهاد عُيِّن الأسقف سلوانس الفلسطيني الأصل أسقفاً على حمص، ورعى هذه المدينة لأربعين عاماً، انتهت بالشهادة من أجل إيمانه بالمسيح، وعلى يده اهتدى العديد من وجهاء حمص على رأسهم القديس الشهيد والطبيب الشافي إيليان الحمصي. وأثبتت دراسات أجريت على آثار حمص وجود ثلاث مقابر للمسيحيين تعود إلى هذه الحقبة.
خاتمة:
هكذا بدأت المسيحية في هذه الأرض الطيبة، في ظلّ التعصّب والتمسّك نشأت، وعايشت مختلف المضايقات والاضطهادات المحلية والخارجية الرومانية، فأنبعت العديد من الشهداء، الذين سكنوا ترابها وقدّسوا باطنها، ولعلّ هذا البحث المقتضب إنّما بدايةُ ومقدّمةُ سلسلةٍ من الأبحاث، التي تخصّ هؤلاء الشهداء القديسين الحمصيين. فبصلواتهم أيّها الربّ إلهنا ارحمنا وخلِّصنا، آمين.
اترك تعليقاً