كنت أملك ميزةً تؤهّلني لأن أكونَ الرجل الخارق في زمنٍ سابق، لم أكن “سوبر مان” كنت فقط “كاميرا مان”.
مصوِّرٌ في وقتٍ كانت فيه الصورة عملة نادرة، و”الكاميرا” تذكرة دخول وخروج وقبول، أتنقّل وأسافر، أصوّر وأغامر…
أروي قصصاً فيها الكثير من المبالغات، أضمّنها بعض الشعوذات عن حجرة الضوء السحريّ التي أملك، وما يمكنها فعله.
رأيت الكثير ووثّقت الكثير، وفي غفلةٍ من الزمن شعرت بالمللِ، وبهَت كلّ شيءٍ أمام عينيّ، حتى حجرة الضوء استحالت سواداً.
كنت ضالّاً محتاجاً لأن أوجَد، شعرت برغبة ملحّة للعودة وكلمات باولو كويللو تتردّد في ذهني: “إنّ البشر يحلمون بالعودة أكثر ممّا يحلمون بالرحيل”.
فوجدتني عائداً إلى قريتي.
كيف؟
لم أعلم…
حقّاً كانت قوىً خفيّةً تلك التي تحرّكني وقرّرت أن أسلّمها نفسي.
تزاحمتِ الأفكار في رأسي…
أتكون محطّة توقّفٍ وأستمرّ، أم محطّة أخيرة فأستقرّ؟
لست أدري… لكن كلّ ما علمته أن الإجابة تنتظرني هناك عند نقطة البداية.
وصلت مع تلوّن السماء بألوان الغروب، وهو الوقت الذي اعتادت فيه عائلتي أن تجتمع حول النار منتظرةً كأساً من الشاي لم أطقه يوماً لكنه كلّ ما أشتهي الآن، وما أعلم يقيناً أنّه سيروي ظمأي.
دخلت الحقل متسلّلاً كلصٍّ ومع اقترابي قطع طريقي مشهدٌ لأخويّ وهما في حالٍ غريبة من التنبّه والاستنفار، لم يشعرا باقترابي وكان جلّ ما أردته هو تخليد اللحظة بصورة، وضعت رأسي تحت الستارة السوداء، وبحركة حمقاء زلّت قدمي فأصدرَت صوتاً نبّه شقيقيّ لوجودي استدارا على عجلٍ ليجدا “كاميرا” مصوّبة باتجاههما، فكان الوجوم سيّد الموقف والتُقطت الصورة.
تحوّل ذاك اليوم إلى عيدٍ وذُبِحَ العجل المسمّن، غمرني شعورٌ بالطمأنينة كنت قد نسيت حلاوتَه في مرارة الترحال.
مضت سنوات من الضياع استنزفَتْ عمري، وفي لحظةٍ من لحظات صحوةِ الذاكرة -التي أضحت مغامرتي الوحيدة في فراغ الشيخوخة- عاد إليّ ذاك المشهد ولمعت الصورة في مخيلتي، أين هي؟
بدأت عملية البحث في ذاكرتي أوّلاً، وفي مستودع الخردوات تالياً، حتى وجدتها، كانت معلّقة من زاويتها تنتظرني، وأتعبها طول الانتظار.
بمجرّد النظر إليها شعرت بضيقٍ عميق، كنت في هذه اللحظة مسحوراً وكأني أراها للمرة الأولى وقد ظهر فيها أخي الأصغر بملامح شاحبة وعينين شاردتين، حاملاً شيئاً لامعاً في يده…
يا إلهي!
أيكون هذا هو الموسى الذي أهداه إليّ؟
أكان أخي يحمل سلاحاً؟؟!!
وتتالت إشارات الاستفهام…
هل كان وصولي في ذلك الوقت مع أداتي السحرية تدبيراً إلهياً؟؟
هل تحوّلت الكذبة إلى حقيقة، فغيّرت تلك الصورة من الواقع؟
هل تكون حجرة الضوء السحري خاصّتي أنقذت حياتين بحركة واحدة منها؟
لم أجد مهرباً أو تفسيراً آخر، فها هي الصورة توثّق ذلك بظهور انكسار واضح في الضوء لا وجود له في الواقع، كهوّة تفصل بين الأخوين وتستعدّ لابتلاعهما في ظلامها، أيكون هذا هو السحر الذي أمضيت سنوات وأنا أحكي قصصاً عنه؟
لا يعقل!!
عقلي العجوز لا يستطيع احتواء ما يحدث…
ولو أني سمعت تلك القصّة لما صدّقتها لكنني الآن أنا الراوي.
كم أنها هشة تلك النفس البشرية؟!
نعم، إنها ضعيفة أمام قراراتها، وهذا الضعف يُتبَع بالندم، الندم الرابض عند الباب ليأكلها كلّما تهاونت في الحفاظ على “صورتها كمثاله”.
وكثيراً ما يصل بها الأمر أن تسوّغ لنفسها القتل في لحظة غضبٍ، يغيب فيها كلّ شيء وتبقى ال “أنا” تلقي بثقل أخطائها على ذريعة “الدفاع عن النفس”.
“…ليس تحت الشمس جديد”!
ألم تكن هذه هي الخطيئة الأصلية؟
أن يقتل الأخ أخاه؟
أن يقوم قايين على هابيل في الحقل فيقتله!!
لكن وفي كلّ مرّة، يكون الخاطئ بانتظار صوتٍ يوقظ الرحمة داخله، حجّةً تبرّر له التراجع، شمساً تشرق مبدّدة ظلام الغضب، إذ كما أنّ النور الأرضيّ هو أساسيّ للبصر، كذلك النور الإلهي بالنسبة للبصيرة.
فيبقى الأمل أن تنتفض في النفس تلك القيم الأصيلة في أشدّ لحظات التعدّي، في لحظة مصيرية: قد تكون لحظة تخلٍّ تنتج عنها كارثة حين يتخلّى الربّ عن هذا العبد المزمع أن يخطئ فلا يشرق بنوره عليه، وقد تكون حياةً جديدةً حين يرسل له الربّ إشارةً أو شخصاً أو حتّى “صورة” تنبّهه..تغيّر مجرى الحدث…يفهمها… فيخلُص بها.
كنت أملك ميزةً تؤهّلني لأن أكونَ الرجل الخارق في زمنٍ سابق، لم أكن “سوبر مان” كنت فقط “كاميرا مان”.
مصوِّرٌ في وقتٍ كانت فيه الصورة عملة نادرة، و”الكاميرا” تذكرة دخول وخروج وقبول، أتنقّل وأسافر، أصوّر وأغامر…
أروي قصصاً فيها الكثير من المبالغات، أضمّنها بعض الشعوذات عن حجرة الضوء السحريّ التي أملك، وما يمكنها فعله.
رأيت الكثير ووثّقت الكثير، وفي غفلةٍ من الزمن شعرت بالمللِ، وبهَت كلّ شيءٍ أمام عينيّ، حتى حجرة الضوء استحالت سواداً.
كنت ضالّاً محتاجاً لأن أوجَد، شعرت برغبة ملحّة للعودة وكلمات باولو كويللو تتردّد في ذهني: “إنّ البشر يحلمون بالعودة أكثر ممّا يحلمون بالرحيل”.
فوجدتني عائداً إلى قريتي.
كيف؟
لم أعلم…
حقّاً كانت قوىً خفيّةً تلك التي تحرّكني وقرّرت أن أسلّمها نفسي.
تزاحمتِ الأفكار في رأسي…
أتكون محطّة توقّفٍ وأستمرّ، أم محطّة أخيرة فأستقرّ؟
لست أدري… لكن كلّ ما علمته أن الإجابة تنتظرني هناك عند نقطة البداية.
وصلت مع تلوّن السماء بألوان الغروب، وهو الوقت الذي اعتادت فيه عائلتي أن تجتمع حول النار منتظرةً كأساً من الشاي لم أطقه يوماً لكنه كلّ ما أشتهي الآن، وما أعلم يقيناً أنّه سيروي ظمأي.
دخلت الحقل متسلّلاً كلصٍّ ومع اقترابي قطع طريقي مشهدٌ لأخويّ وهما في حالٍ غريبة من التنبّه والاستنفار، لم يشعرا باقترابي وكان جلّ ما أردته هو تخليد اللحظة بصورة، وضعت رأسي تحت الستارة السوداء، وبحركة حمقاء زلّت قدمي فأصدرَت صوتاً نبّه شقيقيّ لوجودي استدارا على عجلٍ ليجدا “كاميرا” مصوّبة باتجاههما، فكان الوجوم سيّد الموقف والتُقطت الصورة.
تحوّل ذاك اليوم إلى عيدٍ وذُبِحَ العجل المسمّن، غمرني شعورٌ بالطمأنينة كنت قد نسيت حلاوتَه في مرارة الترحال.
مضت سنوات من الضياع استنزفَتْ عمري، وفي لحظةٍ من لحظات صحوةِ الذاكرة -التي أضحت مغامرتي الوحيدة في فراغ الشيخوخة- عاد إليّ ذاك المشهد ولمعت الصورة في مخيلتي، أين هي؟
بدأت عملية البحث في ذاكرتي أوّلاً، وفي مستودع الخردوات تالياً، حتى وجدتها، كانت معلّقة من زاويتها تنتظرني، وأتعبها طول الانتظار.
بمجرّد النظر إليها شعرت بضيقٍ عميق، كنت في هذه اللحظة مسحوراً وكأني أراها للمرة الأولى وقد ظهر فيها أخي الأصغر بملامح شاحبة وعينين شاردتين، حاملاً شيئاً لامعاً في يده…
يا إلهي!
أيكون هذا هو الموسى الذي أهداه إليّ؟
أكان أخي يحمل سلاحاً؟؟!!
وتتالت إشارات الاستفهام…
هل كان وصولي في ذلك الوقت مع أداتي السحرية تدبيراً إلهياً؟؟
هل تحوّلت الكذبة إلى حقيقة، فغيّرت تلك الصورة من الواقع؟
هل تكون حجرة الضوء السحري خاصّتي أنقذت حياتين بحركة واحدة منها؟
لم أجد مهرباً أو تفسيراً آخر، فها هي الصورة توثّق ذلك بظهور انكسار واضح في الضوء لا وجود له في الواقع، كهوّة تفصل بين الأخوين وتستعدّ لابتلاعهما في ظلامها، أيكون هذا هو السحر الذي أمضيت سنوات وأنا أحكي قصصاً عنه؟
لا يعقل!!
عقلي العجوز لا يستطيع احتواء ما يحدث…
ولو أني سمعت تلك القصّة لما صدّقتها لكنني الآن أنا الراوي.
كم أنها هشة تلك النفس البشرية؟!
نعم، إنها ضعيفة أمام قراراتها، وهذا الضعف يُتبَع بالندم، الندم الرابض عند الباب ليأكلها كلّما تهاونت في الحفاظ على “صورتها كمثاله”.
وكثيراً ما يصل بها الأمر أن تسوّغ لنفسها القتل في لحظة غضبٍ، يغيب فيها كلّ شيء وتبقى ال “أنا” تلقي بثقل أخطائها على ذريعة “الدفاع عن النفس”.
“…ليس تحت الشمس جديد”!
ألم تكن هذه هي الخطيئة الأصلية؟
أن يقتل الأخ أخاه؟
أن يقوم قايين على هابيل في الحقل فيقتله!!
لكن وفي كلّ مرّة، يكون الخاطئ بانتظار صوتٍ يوقظ الرحمة داخله، حجّةً تبرّر له التراجع، شمساً تشرق مبدّدة ظلام الغضب، إذ كما أنّ النور الأرضيّ هو أساسيّ للبصر، كذلك النور الإلهي بالنسبة للبصيرة.
فيبقى الأمل أن تنتفض في النفس تلك القيم الأصيلة في أشدّ لحظات التعدّي، في لحظة مصيرية: قد تكون لحظة تخلٍّ تنتج عنها كارثة حين يتخلّى الربّ عن هذا العبد المزمع أن يخطئ فلا يشرق بنوره عليه، وقد تكون حياةً جديدةً حين يرسل له الربّ إشارةً أو شخصاً أو حتّى “صورة” تنبّهه..تغيّر مجرى الحدث…يفهمها… فيخلُص بها.
اترك تعليقاً