قرابة عام 650 ق م عندما ابتدع أهل مقاطعة ليديا في آسيا الصغرى (تركيا حالياً) أول قطع نقود معدنية وافترضوا لها ثمناً محدداً تلقف كل تجار المتوسط هذا الاختراع الذي سهَّل العلاقات التجارية وجعل لكل شيء ثمناً وأصبح لهذا الثمن مقياسٌ موحَّد.. كان من البديهي أن يكون الفينيقيون أكثر المستفيدين من هذا الاختراع إذ هوّن عليهم شؤون تجارتهم وهم من عُرفوا بأنهم الأكثر نشاطاً وحركة بين شعوب المتوسط..
أقام الفينيقيون دُوراً لسك العملات في أرواد وصيدا وصور وجبيل وغزة وغيرها وكان أولها في القرن الخامس قبل الميلاد (إلى أن يظهر ما يغيّر هذا التاريخ) وتبعهم فينيقيو الداخل في سوريا المجوفة ومدن حوض الفرات وما بين النهرين وما زال إنتاج دور السك هذه شاهداً قوياً دامغاً لا يقبل الطعن يشير إلى رقيّ ثقافة أجدادنا في تلك الفترة ومدى حسِّهم الفني ومقاييسهم المميِّزة للجمال إذ بمجرد أن يرى الخبير قطعة نقد قديمة حتى يعرفَ مصدرَها والشعبَ الذي استخدمها لأننا بواسطة الفنون نستطيع أن نتلمس حدودَ الأمم عندما تضيع أحجار المساحة..
النقود الهلنستية السلوقية
ثم اجتاح بلادَنا الإسكندر وأورثها إلى أحد قواده الذي أصبح سورياً متعصباً لشعبه الجديد وأسس الدولة السلوقية التي زوّدت لوحة النقود العالمية بأجمل القطع النقدية المعبّرة فعلاً عن ثقافة أهل هذا البلد فأقيمت دورٌ للسكّ في أنطاكيا وبيريا وأفاميا واللاذقية وجبلة وحماة ودمشق وصور وغزة وغيرها.. فصدرت من هذه الدور قطعٌ نقدية غاية في الروعة والجمال تمثّل الهوية السورية والثقافة السورية..
النقود الرومانية
ثم أتى القرنُ الأولُ قبل الميلاد وأتى معه الرومان فكانت سوريا البقعة الأكثر حيوية في الإمبراطورية إذ انطلق منها كما يَعرف الجميع الكثير من الأباطرة الذين كانوا في الغالب أوفياء لبلدهم وأهلهم فسمح في الفترة الرومانية بسكّ العملات في كل من أنطاكيا وحمص ودمشق وعسقلان والبصرة وشهبا والقدس وجبلة وغزة وغيرها.. وحملت هذه النقود شعارات المدن وخلَّدت آلهتها وما تمتاز به عن غيرها.
النقود البيزنطية
ثم انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية في القرن الرابع ميلادي فكان لسوريا أيضاً موقعها الثقافي والاقتصادي الهام في تلك الفترة وسُكَّت في مدنها نقودٌ بيزنطية تحمل علامات المدن التي أصدرتها كأنطاكيا والإسكندرونة وحمص ودمشق وسلوقيا وغيرها…
النقود الإسلامية
عندما حصل الفتح الإسلامي لم يكن للعرب دُور لسك العملات في الجزيرة العربية إذ كانوا يستخدمون النقود البيزنطية والساسانية هناك فلم يكن منهم إلا أن أعادوا تشغيل دور السك الموجودة سابقاً وأصدروا ما يسمى اليوم بالعملات (البيزنطية الإسلامية) والعملات (الساسانية الإسلامية) بنفس المواصفات والأوزان السابقة المتعارف عليها وهي نقود لا تخلو من الغرابة في مضمون رسومها ورموزها إذ كانت في الشام تحمل صوراً لهرقل وأولاده بكامل لباسهم وتيجانهم وعكاكيزهم التي تعلوها الصلبان وبنفس الوقت تحمل أسماء المدن التي سُكَّت فيها باللغة العربية الخالية من النقاط بالإضافة إلى رموز إسلامية ككلمة (الوفاء لله) أو (لله) أو (بسم الله) أو (طيب) في خطوة أولى للتعريب.. (انظر الصور أعلاه) وفي الجزء الشرقي أبقى العرب على رسم الشاه بإضافة بعض الكتابات العربية قرب صورته.. ثم تولَّى الخلافة عبد الملك بن مروان الذي سار خطوة إلى الأمام على طريق التعريب فأصدر نقداً نُقش على وجهه رسمه واقفاً متقلداً سيفه الضخم وكتب حول صورته في إحدى السكات (بسم الله عبد الملك أمير المؤمنين) وعلى الخلف أبقى على رسم الصليب متوضعاً على هرم من ثلاث درجات ووصلت أطرافه لتصبح دائرة مغلقة وحوله كتب (محمد رسول الله لا إله إلا الله وحده) وتعتبر هذه القطع النقدية من أغرب ما صدر في تاريخ النقود الإسلامية .. استمرت هذه الحال إلى عام 78 للهجرة حين قام عبد الملك بن مروان بإصدار العملات الكاملة التعريب فألغى رسمه منها واستعاض عنه بالكتابات (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) وحوله (بسم الله ضرب هذا الدرهم بـ…. سنة…) ومن الخلف ( الله الأحد الله الصمد لم يلد ولم يولد) وحوله (محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) وسار على نهجه هذا في تزيين النقود بالخط العربي فقط وإلغاء الرسوم الآدمية كلُّ الخلفاء وحكام الدول التي قامت في بقاع العالم الإسلامي حتى نهاية القرن التاسع عشر ما عدا بعض الحالات الاستثنائية مثل ما سكه الأراتقة ونور الدين زنكي وأولاده الذين استخدموا الرسوم البشرية على عملاتهم..
أما دور السكّ الإسلامية في تلك الفترة فكانت على سبيل المثال لا الحصر موجودة في حمص ودمشق وإيليا (القدس) وحلب والفرات (البصرة) ومرو والجزيرة (جزيرة ابن عمر) وواسط والكوفة والرملة والرُّها وطبرية وقنسرين والموصل وغيرها..
استمرت دور السك في سوريا تصدر النقود الخاصة لكل دولة من الدول التي قامت على أرضها مخلدة اسم الحاكم أو الأمير حتى بداية الحكم العثماني حيث أغلقت في أيامه دور السك الواحدة تلو الأخرى حتى إنه لم يعد يسك في سوريا من النقود إلا ما ندر من القطع النحاسية والفضية وذلك خلال فترات متباعدة ولأسباب وظروف استثنائية.
النقود في سوريا اليوم
أما اليوم ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين تقوم سوريا بطباعة نقودها الورقية في هولندا بعد أن كانت تطبعها في الباكستان وغيرها بسبب وجود أنظمة رقابة دولية متفق عليها لمثل هذا العمل.. أما نقودنا المعدنية فقد تم سكها مؤخراً في بريطانيا وبالتالي فإن السؤال هو: هل هناك ما يمنع أن تكون في سوريا دارٌ لسكّ النقود المعدنية على الأقل يتم فيها إصدار نقد سوري معدني بأيدٍ سورية وآلات سورية فيكون إنتاجها وثيقة ً تاريخية للأجيال القادمة كما هي حال النقود القديمة اليوم؟..
نهاد سمعان
اترك تعليقاً