لحظةٌ واحدةٌ كانت كفيلةً بأن تعيد إليَّ قصَّة طفلي الذي لم أُنجبه يوماً.
حين أتاني مسرعاً يزِفُّ لي خبرَ أنّي سأصبح جدَّةً بعد تسعةِ أشهرٍ.
في تلك اللّحظة وقفَ الزّمان بي.. إنّي أستعدّ لاستقبال حفيدي الأوّل، ترى هل أعتبره من لحمي ودمي أهو حفيدٌ حقيقيّ؟
لم يكن عليّ أن أنجب طارق لكي أحبَّه بهذا القدر.
وعادت لي الذكرى من بدايتها:
مع اِبتداء عقدي الثالث من العمر، قررنا أنا وحبيبي أن نتزوج بعد علاقة حبّ دامت ستّ سنواتٍ، وبما أن الزواج يتمحور حول إيجادنا شاهد على حياتنا لم أكن لأريد سواه.
رسمنا لحياتنا منحىً طبيعيّ… منزل دافئ بحبِّنا، وعمل يساعد على سدّ احتياجاتنا، وأطفال يضفون على حياتِنا البهجة.
لكن القدرَ كان له رأيٌ آخر
ففي الزواج يوجد شخصان، صوتان، رأيان…. مجموعتان متضاربتان من القرارات والرغبات هذا ما عشته مع زوجي، هو يريد وأنا أرفض، أنا أعترف وهو يُنكر، وبعد محاولات عدة للإنجاب باءت بالفشل، أصبح هذا الفشل فجوةً بيننا كبيرة تحوّل من خلالِها الحب إلى يأس والحنان إلى شفقة.
كنت أرفضُ رفضاً تاماً أن أتبنى طفلاً
لكنني شارفت على الأربعين من عمري وأصبح هذا هو الحل الوحيد. ودوماً كنت أتساءل في خاطري كيف لي أن أحبّ طفلاً متبنّىً مثلما أحبّ طفلي؟ لكن ما أن حملت طارق بين يديي حتى تحوّلَ حبّ العالم كلّه مني إليه، فكيف كان لي أن اشكَّ في الأمر؟
في صباح ذلك اليوم، دفعتني رغبة داخلية قوية لأن أذهب زيارة إلى الميتم المجاور لبيتِنا.
ذهبت أنا وأختي دون علم زوجي، رحّبت بنا السّيدة سعاد القائمة على الميتم، رويت لها قصتي، وشجعتني على التبني بقولها: “في العالم مايكفي من الأطفال ومعظهم دون أهل، منهم من والديه لم يكونا مستعدّين لاستقباله أو من مات والديه في حادث، وغيرها من مصائب ومشاكل تعرّضوا لها فرموا بهم إلى دوْر الرعاية”.
خرجنا إلى الحديقة مع السيدة سعاد كان يوم مشمس والأطفال في الخارج يلعبون، وقع نظري على طفل كان غير أصدقاءه وشعره الأجعد غير المرتب بطريقة تكاد تحجب الرؤية عن عينيه. تلك العيون كانت كافية بأن تخطف قلبي. عدت إلى المنزل ولم أخبر زوجي أين كنت كمت أنه لم يسأل.
في تلك الليلة أبت عيوني أن تتلاقى أجفانها، وأنا أفكر بذاك الصبي -دون غيره من الأطفال- لا أدري ما السبب، حتى دون معرفة اسمه، ترى أيعقل أن يصبح طفلي؟؟
وبعد زيارات عدة إلى دار الرعاية وتوطيد علاقتي مع “طارق” والتأكد من قبوله لي. قررت أن أبدأ بإجراءات التبني.
لم يكن عمره يتجاوز الأربع سنوات، وبعد الانتهاء من كافة الإجراءات واستلام الكفالة بتبنيه ذهبت السيدة سعاد لتخبره أنه سيغادرُهم، فقد أصبح لديه أم وأب محبَّين.
لا يمكنني أن أنسى تلك الابتسامة عندما علم أنه ذاهب من المكان الذي بقي محجوزاً فيه تلك السنوات.
ودّعتُ السيدة سعاد وشكرتُها على جهودها فدعتني لأخذ صورةٍ تذكارية أخبر فيها طارق عن ذلك اليوم.
وكان طارق بيننا يبتسمُ للحياة وكان صديقيه يامن وخالد يقفان بجوارنا، لا أعلم ما الذي ارتسم على وجهيهِما أكان الحزنُ على فراق صديقهما أم السعادة له.
وكانت بجانبنا سلمى العجوز التي تساعد في تأمين احتياجات الأطفال، وقد عزّ عليها أن تقوم لتودّع طارق كي لا تنهال بالبكاء على ذهاب طفلٍ ممَّن اعتبرتهم أطفالها.
بعد توديعه لأصدقاءه أمسكت يدي صغيري وقلت له: “أهلا بك في عالمي، أعدك بأن أكون الأم التي حلِمت بها دوماً وأجهشت بالبكاء”. كانت أماراتُ وجهِه توحي بعدم فَهمِه الكثير من كلامي إلا أن سؤاله الوحيد كان:
أساقول لك بعد الآن أمي؟ قلت له أجل يا صغيري وسرنا إلى البيت.
في طريقنا اصطحبنا قالب من الحلوى وأخبرته أنه عيد ميلاد زوجي أي والده، عندما وصلنا إلى البيت كان زوجي بانتظاري ولم يعلم أن معي مفاجأة له قلت له عيد سعيد يا جميلي اليوم حصلت على أجمل هدية “طارق”، اليوم ليس عيدَك وحدَك إنما عيدُ طارق وعيدُ حياتِنا الجديدة معاً، بعد أن أخبرتُه القصة وهو كان دوماً مع التبني تقبّل طارق بترحيب كبير وبدأنا بالتجهيزات كاملة لإقامةِ طارق في بيتنا، وحضّرنا غرفة بكامل حاجياتِه.
منذ ذلك اليوم بدأت أرى علاقة الحبّ بين زوجي وطارق ومشاعر الأبوّة تزداد وتنمو مع نموّ طارق بيننا كلّ يومٍ.
إلى الآن وبعد ثلاثين سنة كنت أملأ فيها كل يوم لطارق بالحب والحنان وشهدت فيها أجمل المشاعر، وبعد إخبار طارق من يكون حقيقةً لم أشعر أنه حزن بل قال لي أنت أمي وليس لي أمٌّ سواكِ. وأنا أعتبر طارق أكثر من ابني الحقيقي فالأمومة ليست بإنجاب طفل إنما في رعايته ومحبّته.
فالأطفال ليس لهم ذنب بأفعال أهاليهم، كان طارق صغيري، حتى بعد أن تزوج بقيت مكانته في قلبي ولم أستطع أن أنظر إليه سوى أنه طفلي الصغير الذي لم أنجبه يوماً وأحببته أبداً.
كارول وهبي
اترك تعليقاً