لشد ما كانت سنواتي الطفولية الأولى مرتبطة بمكان جميل عزيز على قلبي، عابق بالذكريات الجميلة التي كانت ومازالت من أجمل الذكريات على قلبي. فذكريات الطفولة لها طابع خاص في النفس؛ لا تمحى من العقل ولا تزول من الوجدان، خاصة أنها ترتبط بأناس أعزاء، منهم من غادر إلى جوار ربه، ومنهم ما زال مستمرا معنا في الحياة…
لذلك كان استرجاع الذكريات مع أناس أعزاء موجودين معي، له وقع خاص في نفسي، إنهم رفاق الطفولة والأقرباء الأعزاء…
فمازلت أذكر بكثير من الحنين كيف كنا نذهب في شبه رحلة إلى ذلك المكان البعيد عن بيتنا والذي كان يسمى (الجسر الأول) …
كان الأمر يتطلب -طبعا- سيارة أجرة، والطريف في الأمر أن أجرة السيارة في ثمانينات القرن المنصرم كانت حوالي خمس ليرات سورية…
كنت أذكر أيضا فرح الطفولة باللعب في ذلك المكان الأخضر، وأذكر العبور فوق ذلك الجسر الحديدي الذي يصل بين ضفتي الساقية التي كانت تقع خارج حمص في ذلك الوقت، إذ لم يكن المكان مأهولا بالسكان كما هو الحال اليوم..
كما أذكر أيضا كيف كنا نركض ونلعب، وكيف يبدأ الصبية الصغار باصطياد الضفادع وحبسها في أكياس نايلون أو قوارير بلاستيكية…
كان ذلك المتنزه فرحا حقيقيا لنا، إذ كان مشوارا في أحضان الطبيعة…
واليوم… وبعد مرور الكثير من السنوات على تلك النزهات إلى (الجسر الأول)، أمر أمامه اليوم وأنا حزينة لهذا المشهد؛ فالماء لم يعد يترقرق صافيا في الساقية، والطاولات لم تعد مفروشة على ضفتيه، والمكان لم يعد مأهولا كالسابق، والضفادع لم تعد تقفز على ساقيته، وأغلق المكان ونبتت حشائش ضارة، وتشكلت مياه آسنة…
أقف أمام هذا المشهد الجديد اليوم وأتأمل، ثم أقول في نفسي: سبحان مغير الأحوال! سبحان الذي يغير ولا يتغير!…
ثم أتذكر أقوال الشعراء في رثاء الأطلال والديار الزائلة كامرئ القيس الذي يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقول النابغة الذبياني:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقغت فيها أصيلانا أسائلها
عيت جوابا وما بالربع من أحد
ثم أعود فأقول: كلنا ماضون إلى زوال والزمان يدور ويدور، فأردد مع حاتم الطائي قوله:
ما الدهر إلا اليوم أو أمس أو غد
كذاك الزمان بيننا يتردد
يرد علينا ليلة بعد يومها
فلا نحن نبقى ولا الدهر ينفد
اترك تعليقاً