بأقلام الشباب
غاب العصر الذي كانت فيه صحافة الورق والحبر تحتكر الإعلام وتتربع على عرشه. انهارت إمبراطورياتٌ وتزعزعت قواعد وأساسيات الخبر. فمن خلال المنطق الإعلامي الراهن، لم تعد الحقيقة مهمّةً بحدِّ ذاتها، بل ما يُمكن إثباته منها للرأي العام هو الأكثر أهمية. لم يعد الحقُّ مُهمّاً بمفرده بقدر ما أصبح الأهم أن تثبت للرأي العام بأنّه يجب الدفاع عنه ومن المجدي العمل على تحقيقه. وفي حين تنفتح التجربة الإعلامية للجمهور على تياراتٍ متلاطمةٍ من القيم والمفاهيم التي تهطل عليه من كلِّ حدبٍ وصوب، تتعاظم أهميّة شكل المعلومة وطريقة تقديمها على حساب المضمون. ومن هذا المنطق الإعلامي الدارج؛ ليس من المهمّ صحّة ما تقول، بل الشكل والتقديم ومدى التأثير والقدرة على الإقناع.
تُعدُّ وسائل الإعلام من أهمِّ الأدوات التي يمكن توظيفها لخلق الرأي العام أو التأثير فيه، ولا تقتصر مهمّة الإعلام على دعم صناعة القرار في بلدٍ ما، بل أصبح الإعلام وسيلةً رئيسيةً في إدارة العلاقات الدولية والرأي العام الدولي، وفي التأسيس للخطط والبرامج الدولية، سواء أكان هدفها الحروب والعدوان، أم إحقاق الحقِّ وإقامة نظامٍ دوليٍّ عادل.
في عصرنا هذا، لم يعد من الممكن النظر إلى الرأي العام على أنّه طفلٌ نُطعمه ما نقرّره له، ونربّيه على طاعة تنفيذ القواعد والأخلاق والقِيم التي نرغب. إذ تَكشف التكنولوجيا للجمهور طيفاً واسعاً من المؤثّرات العالمية المتناقضة والجذابة، لدرجةٍ نستطيع فيها القول إنَّ العتاد الإعلامي أصبح يفوق في تأثيره العتاد العسكري والاقتصادي، من خلال قدراته على الترويج وخلق الصورة النمطيّة التي تهيّئ لنجاح السياسة ذاتها.
إنَّ جوهر الفعل الإعلامي هو نقل الوعي من الإدراك العقلي إلى الانخراط العاطفي، ومن التبني الفكري إلى التبني المعنوي. أمّا هدفه فهو نقل وعي الجمهور من مرحلة رفض فكرةٍ ما إلى مرحلة القبول بها، إضافةً إلى نقله من مرحلة القناعة العقلية الدارجة بفكرةٍ ما إلى التبنّي الشعوري والتعصّب لها.
في عالمٍ يعتمد على وسائل الإعلام ويلتهم نتاجاتها مثلما لم يفعل من قبل، في عالمٍ تهطل فيه الحقائق بقوّةٍ أقلّ من التي تهطل فيها المعلومات المُلفّقة والمشوّهة والمُسبقة الصنع على الجمهور بكلِّ حوّاسه، تصبح مهمّة الأداة الإعلامية غايةً في التعقيد والصعوبة. إذ تنمو التجربة المعنويّة والشعوريّة والمعرفيّة للجمهور مع انفتاحه الجارف على مختلف مصادر الإعلام، وهذا الوضع الراهن يضع الإعلام أمام تحدٍّ مصيريّ.
لم يعد من الممكن التحكّم فيما يتلقّاه الجمهور من تأثيرٍ إعلامي، ولم يعد من الممكن عزل الجمهور عن محيطه الطبيعي الكوني العالمي. ففي جُزءٍ من الثانية ينتقل المُتفرّج والمُبحر عبر الإنترنت من عالمٍ إلى عالم، ومن منظومة قيمٍ لأخرى، ومن صورةٍ معيّنةٍ لحقٍّ معيّن إلى أخرى تجعله باطلاً، ومن عصبيّةٍ إلى نقيضها. وأداته في الحُكم ليست العقل وحده، فهي متأثرةٌ بقوةٍ بالإعلام والترويج والقيم الرائجة.
وفي كثيرٍ من الأحيان، يلتقط الجمهور والرأي العام مبادرةً سياسيةً أو ثقافيةً أو فكريةً ليتجاوز بها الوعي الإعلامي الرائج لدى النّخب الإعلامية والسياسية. فنجد الإعلام فجأةً هو الذي يركض وراء الرأي العام، ويصبح الرأي العام هو صانع إعلامه، ليفرض من جديدٍ منظومةً جديدةً من القيم والأولويات على الإعلام ذاته.
نحن في عصرٍ يستطيع فيه كلُّ مَن يحمل هاتفاً جوالاً أو لوحة مفاتيح أن يصبح محللاً ومخبراً وصحافياً. إذا، مات الوقت وأصبح «عدد» الإعلام الاجتماعي يُجهَّز في أيِّ وقتٍ، وفي أي وقت يُقرأ. الحقيقة الوحيدة في هذا المجال أنّنا أمام تطوّرٍ لا يُردّ، تطوّر بضخامة “الإعلام الاجتماعي” لا يقف أثره عند حد.
سالي نسطة
اترك تعليقاً