ليس فقط عنوانا لمجموعة الكتب التي أصدرها الباحث والمؤلف التشيلي الإسباني من أصل سوري الدكتور بابلو صباغ حول الأحداث التي عانتها بلادنا في السنوات العشر الماضية، إنما هو ذلك السراج الذي يوضع فوق المنارة ليوضح الرؤية للسالكين في عتمة التضليل التي خيمت على الرأي العام العالمي منذ بدء الأزمة السورية وماتزال تحاول تبديل الحقائق وتشويهها.
كتاب سوريا في المنظور كان قد نُشِرَ باللغة الإسبانية في نسختيه الأولى والثانية في عامي ٢٠١٨ و ٢٠١٩ و قد أصدر مؤلفه مؤخراً النسخة الثالثة باللغة الانكليزية ليكمل توثيق ما قد بدأه في كتابيه السابقين.
يتميز الدكتور صباغ في عرضه للوقائع بأنه يستند على جوهر سورية كبلد تميز دون غيره من البلدان بتعدد الأديان والأعراق والتعايش السلمي فيما بينها على مر العصور واختلاف الحضارات وتعاقب أنظمة الحكم فيها، فيؤكد على حرص الشعب السوري في الحفاظ على هذا الإرث والدفاع عن فطرة التوافق المعيشي المتأصلة فيه منذ القدم والتي يصعب على غيره من الشعوب استيعابها لافتقارهم إلى هذا النوع من النسيج الاجتماعي المتناسق بانسياب طبيعي لا يميز بين أكثريات وأقليات و لا يفرض على أي منها الانسياق إلى غيرها، فيأتي هذا المزيج الرائع تحت فيء وطنٍ يجمع أبناءه كأخوة متحابين على اختلافهم وعلى رغم المحاولات الخارجية لزرع الطائفية والتفرقة فيما بينهم، فيأتي نفيه لوجود حرب أهلية في سورية كما يدعي الغرب، إنما حرب فرضت عليها من قبل قوى خارجية أرادت أن تستغل بعض الفئات المتطرفة في سعيها إلى فرض أفكارها و القضاء على هذا الطابع السوري الرائع.
في إصداره الأخير عن دار كومبلوتينسي للنشر، كتاب سورية في المنظور يعرض تطور الأحداث على الساحة السورية من بداية الأزمة و تصاعدها داخلياً و خارجيًا وصولاً إلى مرحلة إعادة الإعمار الوطني فيضع الواقع السوري تحت المجهر وينقله لنا بكل تفاصيله، و يصوره في إطار الظروف الجيوسياسية السائدة في المنطقة والخلفية التاريخية والاجتماعية لها، آخذاً بعين الاعتبار كل الأبعاد العسكرية والبروباغاندية المؤثرة، فنراه يسقط نظريات الإعلام الغربي ويفضح أكاذيبه في تغطية الأحداث، عارضاً السيناريو باكتمالٍ يملأ تلك الفجوات التي تركتها وسائل الإعلام العالمية لأهداف تخدم مصالح الدول المؤيدة للإرهاب في سورية، ويشير إلى الخطوات التي يتحتم على مؤسسات الدولة اتباعها في ظل الوضع الراهن للتقدم على الأصعدة كافة، السياسية منها والاقتصادية، لتعزيز مكانتها دولياً والبحث عن السبل التي تسمح لها بالنهضة متحديةً العقوبات القسرية المفروضة على الشعب السوري من قبل الولايات المتحدة الأميركية و الاتحاد الأوروبي بشكل أحادي الجانب يخالف كل القوانين الدولية.
بابلو صباغ، اسم من الصعب حصره في محض تعريف مهني، فهو في شعوره المتأصل بالانتماء إلى أرض أبيه وأجداده لم يحمل محبة وطنه الأم في القلب، بل في كل ذرة من كيانه، فكانت ماهيته سورية بحتة تشابه أصالة الشام وشموخ قاسيون وتاريخ ايبلا وعراقة تدمر وخصوبة وادي الفرات، إنه المنحدر الأصل من مدينة حمص حيث ولد جده كامل صباغ الذي هاجر منذ ما يقارب قرناً من الزمان إلى تشيلي لينشأ أبناؤه في عالم البحث و الدراسة الأكاديمية فتميزوا في عدة مجالات علمية و أدبية إلى يومنا هذا.
في سعيه الدائم إلى تعزيز علاقته بأرض أجداده وبأقربائه من عائلة صباغ المقيمة في حمص، اجتهد بابلو في دراسته للغة العربية وقام بالعديد من الزيارات الودية والمهنية إلى سوريا، وقد رافق وفوداً من البرلمان والصحافيين الإسبان للتعرف على الواقع السوري على الأرض في ظل الأزمة المسلحة، وقد قام في إحدى زياراته بإجراء لقاء صحافي مع الرئيس بشار الأسد تناول فيه موقف سورية من الأزمة، وبحث في تفاصيلها.
الدكتور صباغ ولد في إسبانيا، وأمضى طفولته المبكرة في إنكلترا، حيث كان والده يعمل في سلك التعليم في لندن، ثم انتقل مع عائلته إلى تشيلي حيث أتم دراسته الثانوية، وعاد إلى إسبانيا للالتحاق بالجامعة في مدريد حيث يقيم حالياً و يعمل كباحث و بروفيسور مختص في العلاقات الدولية والإعلام الحربي و الدعاية، ويقوم بالتدريس في عدة منشآت أكاديمية من أهمها جامعة كومبلوتنسي في مدريد وجامعة ساسكس البريطانية وجامعة تشيلي وجامعة أرسطو في ثيسالونيكي.
شارك في عدة ندوات لشرح الأزمة السورية كانت إحداها أمام البرلمان الباسكي، كما أنه مساهم منتظم في وسائل الإعلام الإسبانية والبريطانية وغيرها في أوروبا وأمريكا اللاتينية حول سوريا وقضايا خارجية أخرى.
نشر كتبًا ومقالات حول تغطية وسائل الإعلام الأجنبية للأزمة السورية والشتات السوري، وعن نشاط المسيحيين السوريين في فيسبوك عبر صفحات كانت تسعى إلى التعاون والتعاضد أثناء النزاع . وقد كتب عدة مؤلفات في مجالات أخرى تناولت الأحداث السياسية و الاجتماعية في تشيلي والحرب الأهلية الإسبانية وصحافة الحرب وغيرها.
عمل كصحفي في عدة وسائل إعلام مرئية ومكتوبة وكان مراسلاً حربياً في ألبانيا وفي العديد من الأماكن الأخرى، بما في ذلك كوسوفو ومقدونيا والبوسنة وأفغانستان وباكستان والجزائر والمغرب والشرق الأوسط والمكسيك والأرجنتين وجمهورية إيرلندا. حيث تميز دائما بإنسانية لامتناهية في تغطيته للأحداث ومقاربته لأشخاص من الأطراف كافة بشكل حيادي لا إدانة فيه و لا أحكام عشوائية، فكان يستخلص من كل من قابلهم جوهر الإنسان فيهم ولو للحظات ينتشلهم فيها من وحشية القتل وينتزع بذرة الشر من نفوسهم!
بابلو صباغ، سوري نفتخر بأعماله ونقدر فيه سعيه الدائم إلى ما فيه خير وطننا، فيعيدنا بكلامه إلى خلاصة انتمائنا ويتجدد فينا ذلك العشق الأزلي لأرض ماتزال تحتضننا في رحم محبتها، وتربطنا إلى مشيمتها بحبل سري يغذي أرواحنا إلى آخر رمق مهما نأت بنا الأيام و تعددت أجيال أبنائنا في الخارج! إنهم و إيانا لا بد عائدون إلى أحضانها.
لينا توماني- تشيلي
جيد جدا ممتاز