في رحلتي الاضطرارية لتعلم اللغة البرتغالية، كان لا بد لي من البحث عن مركز لتعليم اللغات وكانت هذه القصة.
وفي شارع سانتا سيسيليا(Santa Cecília) ذي الأغلبية اليهودية يقبع مركز بيبيلياسبا(Bili Aspa) للبحوث والدراسات الأدبية، مغايرا للأبنية المجاورة المرتفعة، يبدو هذا المركز تماما كأحد قصور حمص العتيقة الفارهة، فالبناء ذو الطابقين الاثنين مبني بالكامل من أرضه حتى أعلاه من الحجر الأسود المرصوف المطابق لأحجار حمص بلونها وحجمها وربما رائحتها، وسقفه مصنوع من حجر الآجر البرتقالي اللون، أما نوافذه في الطوابق العليا فمقنطرة ومزخرفة من الجوانب ومقسمة بأعمدة حديدية طولانية.
اقتربت من المركز وفتحت بوابته الخضراء لأطل على حديقة صغيرة من الأشجار والأزهار، وبطرفها البعيد كان يوجد مقعد حجري يبدو كشاهد على قصص حب اختلى فيها أبطالها بأنفسهم التواقة ليلقوا على قمر ليل حمص تحية المساء.
قطعت الحديقة وصعدت الدرجات الثلاث لأصبح في مدخل بهو متواضع الأثاث منمق، وفي صدر الحائط تفاجأت بلوحة كبيرة تحمل عددا من جريدة حمص!!. عبرت عن دهشتي لرؤية هذه اللوحة وسألت السكرتيرة الجالسة خلف مكتب الاستقبال بلغة برتغالية فجة: هل تعرفين ما هذه اللوحة؟ أجابت: نعم، شارحة أن المعهد هذا تأسس منذ ثمانين عاما أو أكثر، من عائلة فرح الحمصية، و يديره حاليا البروفيسور باولو فرح.
وهكذا توالت دورات اللغة، فالأولى كانت مع الآنسة سميراميس (Samiramis )اليهودية البيضاء، والثانية مع السيدة تايس(Thais) البرازيلية الكاثوليكية.
وكان الطلاب -بعد كل حصة مسائية- يجتمعون في الساحة الخلفية للمركز ليحتسوا قليلا من الشاي أو القهوة مع بعض الأطباق السورية اللذيذة التي كان يعدها أيضا طلبة من المعهد نفسه. ذلك أن المعهد كان يقيم إضافة إلى دورات اللغة البرتغالية، دورات تدريبية في الطهي والطبخ ليساعد اللاجئين على كسب العيش، وكذلك كان يقوم بدورات مهنية مختلفة لدعم الشباب المغترب، بالإضافة إلى ورشات ونشاطات ومعارض ثقافية عامة لدمج المغتربين بالمجتمع البرازيلي.
فتعرفت على السيدة اليابانية الأصل تاباتا (Tábata) ذات الستين عاما المعروفة بمواعيدها الدقيقة، وعلى السيد أحمد (Ahmed) مدرس اللغة الفرنسية، والشابة دانييلا عطالله (Daniella Atalla) وغيرهم الكثير…
وفي طريق العودة انطبعت صورة جريدة حمص في ذهني، آلمتني رؤيتها في مدينة تبعد عن حمص رحلة أشهر في ذلك الزمان، آلمتني كيف كانت حمص مركزا فكريا وثقافيا قبل مئة عام.
آلمتني فكرة أن هناك من يحيي حمص وجريدتها في غير مكان من العالم. ألمني أن هذا المركز سوري الأصل يرسم صورة واضحة عن اتساع مدارك أسلافنا المهاجرين، وقوة أدبهم وفكرهم فحاربوا به وتمسكوا بوطنهم تمسكهم بقلبهم، وطن كانوا يشعرون أنهم أبناؤه و بناته وحماته حتى في أقصى الأرض.
علاء عاقل – ساو باولو
اترك تعليقاً