نقش رومي يوثق انتصار حمص على الساسانيين

يُعد الجامع النوري الكبير أضخم المساجد القديمة وأحد أهم المواقع الأثرية في مدينة حمص، وقد اختطه أبو عبيدة بن الجراح سنة 15 للهجرة (636 م) في قسم من كنيسة يوحنا المعمدان. ويرجح أن الكنيسة كانت في حينه متداعية بسبب التدمير الذي طالها، كما طال الكنائس والمعابد في بلاد الشام، بفعل الزلازل والحروب الساسانية الرومية المتكررة لا سيما الغزو الفارسي خلال السنوات بين 613 و628 ميلادية.

ويشير الخوري أسعد في كتابه “تاريخ حمص” إلى أن المستشرقين جعلوا أوضاع حمص عائقاً كبيراً في وجه المسيحية لأنها كانت مدينة كهنوتية تعيش على موارد الحج واستثمار الأقوال التنبئية وبيع التعاويذ والطلاسم.

يُسرف المستشرق الفرنسي رينيه ديسو فيذهب إلى أن الوثنية استمرت فيها حتى أواسط القرون الوسطى، إلا أن عبادة الشمس في هيكل الشمس ربما استمرت حتى نهاية القرن الخامس على ما وجده الأب هنري لامنس، ثم استحال الهيكل إلى كنيسة في تاريخ لاحق.

ويقترح عالم الآثار المعروف ويليام وادينغتون أن الجامع الكبير في حمص هو في جزء منه كنيسة مسيحية قديمة، والتي احتوت هي نفسها على بقايا معبد وثني. ومن الممكن أن يكون هذا المكان هو موقع المعبد العظيم للشمس، الذي كان الإمبراطور الرومي إلجابالوس رئيس كهنة فيه.

ويورد وادينغتون رأيه هذا في موسوعته الخاصة بالنقوش الكتابية اليونانية واللاتينية في سوريا التي صدرت سنة 1870 تعقيبا على النقش الرومي الذي يحمل الرقم 2570 ضمن الفصل 23 الخاص بالنقوش في إميسا (حمص). كما يؤكد أستاذ اليونانية القديمة هنري هايمن “من دون شك” أن هذا النقش يخص إله الشمس في إميسا.

لحسن الحظ، النقش الرومي مايزال موجوداً في جامع حمص الكبير حيث ظهر بعد الترميمات الأخيرة على قاعدة أحد الأعمدة. ولكن القراءة المتجردة للنقش تطرح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات، ولا تحسم الفرضية القائلة بأن موقع جامع حمص الكبير هو ذاته معبد الشمس الوثني، كما أنها بطبيعة الحال لا تنفي هذه الفرضية.

على الجانب الخارجي لجدار حرم الجامع المطل على صحنه، وعلى قاعدة من المارل القاسي لعمود غرانيتي يتوضع على يمين المدخل الثاني إلى الحرم من جهة الغرب، يوجد نقش باليونانية القديمة يحمل النص التالي:
Κυκλοτερης κοσμοιο τυπος βασιλευς εκο
Εθνεα παντα εχοντα σοφαις φρεσιυ ηυιοχ

وقد نقل هايمن هذا النص إلى الإنكليزية كما يلي:
The king (who is) the round image of the universe won over
the peoples having all things by driving a chariot with skill

وأنقله إلى العربية كما يلي:
الملك صورة الكون المستديرة انتصر على
الأقوام ونال الأشياء كلها بقيادة عربة (حربية) بمهارة.

وفيما قفز وادينغتون وهايمن للاستنتاج بأن هذا النص الذي يتحدث عن “صورة الكون المستديرة” باعتبار ذلك تكريساً لإله الشمس، إلا أن النص يقدم أربعة معطيات مترابطة لم يتعرض لها المستشرقون، وهي الحديث عن (ملك) يوصف بأنه (صورة الكون المستديرة) وقد (انتصر في معركة حاشدة) حيث كان (انتصاره فردياً) من دون معونة من ملوك آخرين ما سمح له بالحصول على جميع الغنائم.

النص بصيغته المجردة عبارة عن تسجيل لنصر حربي هزم فيه الحماصنة، بقيادة ملكهم الذي يحمل صفة ذات قدسية، غزواً أجنبياً من دون الاستعانة بأحد. وهذا الوصف بتقديري ينطبق على النصر الذي حققه كاهن الشمس أورانيوس أنطونينوس الحمصي ضد جنود الملك الساساني شابور الأول في النصف الأول من سنة 253 ميلادية عندما اعتلى أورانيوس عرش حمص منصباً نفسه ملكاً (إمبراطوراً مغتصباً للحكم) خلال فترة الاضطرابات التي شهدتها روما.

وقد سكّت إميسا نقوداً مؤرخة في 565 حسب التقويم السلوقي (254-253 م) تحمل على وجهها الأول صورة جانبية لأورانيوس أنطونينوس وعلى وجهها الثاني رسماً للحجر الأسود ضمن معبد الشمس، وهي الدليل الملموس الوحيد على وجود هذا الملك الحمصي.

وأرجح أن يكون هذا النقش هو الوثيقة المادية الثانية لملك حمص أورانيوس أنطونينوس التي تسجل نصره على الساسانيين سنة 253 ميلادية حيث لم يطل اغتصابه السلطة طويلاً إذ في ربيع أو صيف 254 ميلادية قام الإمبراطور الشرقي الجديد فاليريان بتنحيته.

يذكرنا هذا النقش التاريخي بالنقوش الكثيرة التي استخدمت لتوثيق المعارك الحربية، ولعل من أشهرها إقليمياً النقوش الكتابية على ضفاف نهر الكلب في لبنان. وللمفارقة فإن الإمبراطور فاليريان قاد جيش الروم ضد قوات الإمبراطورية الساسانية بقيادة شابور الأول في معركة الرها سنة 260 ميلادية، وكان أن هُزم جيش الروم وأُسر كاملاً من قبل القوات الفارسية، وهي المرة الأولى التي يجري فيها أسر الإمبراطور في تاريخ روما العسكري. ويوثّق نقش تصويري في منطقة رستم الأثرية بالقرب من مدينة شيراز انتصار شابور الأول على فاليريان في معركة الرها.

النقش الرومي على قاعدة العمود في جامع حمص الكبير يبلغ طوله 80 سنتمتراً وارتفاعه 17 سنتمتراً، واللافت أن أجزاء من سطره الثاني تغطيها أرضية صحن الجامع المكسوة ببلاط بازلتي. ولعل تنقيب الأرضية المحاذية للعمود يكشف عن أسطر إضافية مخفية تقدم معطيات جديدة لأن النقوش الكتابية توضع في أماكن بارزة تطالها عين الناظر، لا على مستوى الأرض.

عبد الهادي النجار

اترك تعليقاً