أدب وفكر وماذا بعد؟

جميل بثينة

د.جودت إبراهيم

قيثارة الوفاء في الشعر العربي

في قبيلة عذرة ولد جميـل بن معمر العـذري، وعذرة قبيلة عربية، كانت تنزل وادي القرى في شـبه الجزيرة العربية، ولقد تعددت أنواع البشر في هذا الوادي، فترك ذلك أثراً من جمال ومن فتنة ومن رقة شعور، حتى عرف ذلك عنهم.

“قيل لأعرابي من العذريين: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنماث كما ينماث الملح في الماء، فقال: “إنّا ننظر إلى محاجر عيون لا تنظرون إليها”.

وجـاء في كتب الأدب عن جميـل أنه كان شاعراً كبيـراً، وراوية لهدبة بن خشرم، وهذا كان شاعراً وراوية للحطيئة.. فجميل إذاً ذو نسب متصل الحلقات في الرواية والأدب.

عرف جميل بثينة فأحبها حباًُ جماً، وتملك حبها في قلبه، ولما لم يوفق إلى الـزواج منها، واجه عاصـفة هزت كيانه ـ قلبه ونفسه ـ وفجرت أعمق مشاعره فازداد حبه بها أضعافاً، وأوحى إليه هذا الحب شعراً، ولعل أصدق ما يعبر عن نفسية جميل قوله:

يقولون جاهدْ يا جميلُ بغزوةٍ
وأي جهادٍ غيرهن أريدُ

لكل حديثٍ عندهن بشاشةٌ
وكل قتيلٍ بينهن شهيدُ

وبقي جميل ينشد وصال بثينة في كثير من الأمل وقليل من اليأس، وتزوجت بثينة من رجل غيره، التهـب حبه، وأخذ يطرق الأبواب المختلفة للوصول إليها، وعلم الناس بهذا ـ والناس لا يرحمون ـ فشكاه أهلها إلى الحكام. وتعرض بذلك لضغط خارجي إضافة إلى قلقه النفسي الداخلي، فارتحل جميل خشية الحكام والناس، وتنقّل بين الشام واليمن.

ونسجت حوله القصص والحكايات.

دُعي جميل (أستاذ المدرسة العذرية) و(إمام المحبين) وكان عفيف اللسان، صادق العاطفة، وإنما تغلب في غزله نغمة حزينة:

خليليَّ فيما عشتُما، هل رأيتُما
قتـيـلاً بكى من حـبِّ قاتلـه قبلي

فإن وُجدتْ نعـلٌ بأرضٍ مطلّةٍ
من الأرض يوماً فاعلمي أنّها نعلي

ولقد تقلبت في طيات شعر جميل أنواع المشاعر والأحاسيس التي تتولد عن علاقة حب طيبة بين إنسان وإنسانة، فقد أحب جميل بثينة في قلبه فسلبت عقله، وتركته يتصارع مع عواطفه المتأججة، الملتهبة، فاتسمت معانيه بالفطرية، الممزوجة برنة الصدق التي تنبعث في كل كلمة من شعره.

فنحن قبل أن نسأل أنفسنا، فيما إذا كان جميل صادقاً فيما يقول: يستبق إلينا أن جميلاً كان أميناً في كل ما نقله إلينا، ونحن الذين نحس أن شيئاً ما يعتلج في داخلنا، وأن نفوسنا تختلج، فتصغي إلى قوله بصدق ليس له مثيل:

يقيكِ جميل كلَّ سوءٍ، أما لهُ
لديكِ حديثٌ أو إليكِ رسولُ؟!

وقد قلتُ في حبّي لكم وصبابتي
محاسنُ شِعرٍ ذكرُهن يطولُ

فإنْ لم يكنْ قولي رَضاك فكلّمي
هبوبَ الصَّبا، يا بثنُ، كيف أقولُ

أليستْ هذه كتلة من الانطلاق كدفقة الماء من الينبوع فيها كل ما في الينبوع من أصالة وصدق وفطرية دون ما تصفية أو تلوين؟!
فغرض جميل واحد هو بثينة وأسلوبه مباشر يتجه به إلى الحب وحدَه، هذا الحب الذي وراء كل ثورة للتعبير عنه صورة بثينة، راضيةً أو غاضبة، بعيداً كل البعد عن وصف محاسن الأحبة فقد كان “العفاف الذي تميز به جميل وأضرابُه حاجزاً له أن يفرج جانباً من غزله لوصف بثينة، وكأنما استمر العفاف في الحب عفافاً في التعبير عن هذا الحب أيضاً”.
فالعفاف عنده كلي ومتصل والحب في قلبه مستوطن:

وما ذكرَتْكِ النفسُ يا بثنُ مرةً
منَ الدهرِ، إلا كـادتِ النفسُ تتلفُ

وما استطرفت عيني حديثاً لخلّةٍ
اُسَرّ بهِ إلّا حديثُك أطرفُ

أين نحن من هذا الحب؟!
آسف ـ مات الحب وكفّنوه ـ غير أنهم لم يدفنوه، وبلغني أنه سيقوم من بين الموتى، وسيشق طريقه مبشراً بين الناس فالحب دائماً هو المنتصر، لا طعم للحياة بدونه، ولا جمال في الدنيا إلا به.

 

 

اترك تعليقاً