حدثني جدي قال:
كان رجل يسير في طريق قاصداً إحدى المدن، فالتقى رجلاً آخر فحيّاه، وسأله عن طريقه فكانت الطريق نفسها فسارا معاً.
تعارف الرجلان، وسأل الأول الثاني عن علومه ومعارفه، والشهادة التي يحملها، فقال الثاني: أنا أحمل شهادة جامعية، وأنت؟
قال الأول: أنا أحمل شهادة حسن سلوك، ثم أخذ بتوجيه رفيقه ويحثه على أن يحصل على مثل شهادته، وقال: إذا لم يكن لديك شهادة حسن سلوك فأنت لا تحمل شهادة وليس لديك علم ولا معرفة!..
واصل الرجلان السير والحديث حتى وصلا أطراف المدينة ـ وكانت قد طالت بهما الطريق ـ فأخذا يبحثان عن مطعم يتناولان فيه بعض الطعام فلم يجدا، فقال الأول: اذهب يا صديقي، فأنت صاحب شهادة عالميّة، وتعرف كيف تتعامل مع الناس ابحث لنا عن بعض الطعام، وأنا هنا انتظرك حتى تعود…
فذهب الرجل وأخذ يجوب أنحاء المدينة، فكانت شوارعها ضيقة ومتعرجة وخالية من البشر تقريباً، فضاقت به الطريق وعندها رأى عجوزاً تنحني على عكازها فسألها عن بغيته، وقال: لماذا هذه المدينة فارغة يا عجوز؟ قالت: اليوم عيد الهبل الأكبر، وجميع الناس يصلّون، فهم جميعاً مجتمعون هناك يقدمون القرابين للآلهة…
وسارت العجوز أمامه حتى وصلا، فشاهد الرجال والنساء وجموع البشر، يركعون ويسـجدون لتمثال الهبل الأكبر، فاشتد غضبه، وأخذ يعيرهم فعلَهم هذا، قائلاً: أللحجر ـ يا أغبياء ـ تركعون؟ وللصنم تسجدون وتصلّون؟!
ويقول جدي: ولا يخلو البشر من الجهّال، فقام بعضهم وأبرحه ضرباً حتى أغمي عليه…
وصاحبنا الرجل الآخر طال انتظاره، فتابع الطريق يبحث عنه، فوجد عجوزاً أيضاً، وسألها قائلاً: أين أهل المدينة يا جدّتي؟
فأرشدته إلى مكان العبادة وجموع المصلّين، فاتجه الرجل إلى المكان وشاهد الناس يركعون ويسجدون… فتقدم الرجل منحنياً حتى وصل أمام التمثال فركع وسجد وصلّى ـ كما رأى ـ ثم رجع ووجهه باتجاه التمثال، وكان قد رأى رفيقه مطروحاً جانباً والدم يسيل منه، فتعجب المصلّون من فعل هذا الرجل الغريب وأخذوا يرحبون به: ويقولون: هكذا الرجال يجب أن تكون. فأنّبهم هذا وقال: لقد رأيت الآلهة غير راضية ووجه الإله حزين… فماذا أنتم فاعلون حتى حزنت الآلهة؟
فعاد الجهّال وضمّدوا جراح المتعلم. ودعا الشيوخ صاحب السلوك الحسن إلى تناول الطعام معهم بهذا العيد السعيد، فأبى الرجل أن يقبل الدعوة إلا برفقة رفيقه الجريح وذلك إرضاء للآلهة وإشفاقاً عليه!.
وقال لي جدي: هل رأيت يا جدي ماذا يفعل السلوك الحسن، إنه لعظيم، قلت له: نعم إنه لعظيم، فلقد كنت يوماً يا جدي في دائرة من الدوائر الحكومية فسمعت بعض الناس يخاطبون الآذن يا أستاذ، والموظف العتيق يا بيك ويا آغا، ويا خواجة، ويقول بعضهم للمدير: يا سيدي، ولغيره: يا تاج راسي، ويا معلّم.. وسمعت آخرين يخاطبون المدير يا أبا فلان، والآذن ينادي رئيسه: يا أبا الغس والآخر: يا أبا فهيد، ولغيره: يا أبا رعد…
نعم يا جدي: إن تقبيل الأيادي ضحك على اللحى، واليد التي لا تستطيع عضها قبّلها وادعُ لها بالكسر، والدجاجة التي لا تستطيع أن تقول لها: “كش” اضربها واكسر رجليها… ما أكثر الأمثال التي نسمع بها، ولكن اعلم يا أخي: أنّهم بحاجة إلى من يمسح لهم الجوخ فلن يجدوا مكاناً يعملون به، فالعملة المزيّفة ساقطة، ولا يكتب لها البقاء، وأنتم أيها السادة، تذكروا أن: تقبيل الأيادي ضحك على اللحى..
د.جودت إبراهيم
مقالة مهمة فيها كثير من الحكمة