أدب وفكر وماذا بعد؟

في وجه (مرتين فييرو) .. أرى وجه الشاعر العربي

عندما كنت في الأرجنتين، قدمت لي عائلة عربية ديواناً شعرياً، لشاعر أرجنتيني هو (خوسه أرناندس) عنوانه (مرتين فييرو).

وأرناندس من أصل إسباني، ولد في مدينة بوينس آيرس، توفي والده وهو صغير، فصحب خالته فيكتوريا بويردون إلى الريف الأرجنتيني، واطلع على أحوال عيشة سكان الأرياف، الذين كانوا يعيشون حياة ذل واستعباد، نتيجة تفشي الإقطاعية، ذلك في النصف الأخير من القرن (التاسع عشر).

وأخذ نجم أرناندس يشع في عالم الأدب والصحافة، بعد أن أصدر جريدة، كان يحمل بها بعنف على الحكام، عندما يرى منهم مغايرة للقانون، والحق، والعدل، ولم يسلم من غضبة الحكام الذين يبطشون بكل من يحاول إيقاظ ضمير الأمة ودلها على حقيقتها، لأن في يقظة الأمة انتهاء مظالمهم، وجشعهم، وأنانيتهم، واستغلالهم المقيت، فنُفي أرناندس إلى أرغواي، وبعد أن عاد أتم ديوانه، وغيره من المؤلفات التي على أهميتها، لم تبلغ المكانة التي بلغها ديوانه (مرتين فييرّو).

وديوان (مرتين فييرو) أشبه بقصة وطنية أرجنتينية، ترجمت إلى عدد كبير من اللغات الأجنبية، وقد نقلها إلى العربية الأديب المغترب السوري جواد نادر الذي انتقى الأليق من التراكيب والتعابير لإطلاقها على المعاني المقصودة بدون أن يختل ـ مع ذلك ـ قوام العربية الفصحى.. وبذلك يكون جواد نادر قد قدم درة ثمينة من الأدب الأرجنتيني إلى مثقفي اللغة العربية.

يعالج خوسه أرناندس في ديوانه هذا مشاكل اجتماعية، ونفسية هامة جداً، في حياة الأمم، فنلمح سخطه على الإقطاعية، وثورته عليها وعلى الطائفية، والعسف في الأحكام الجائرة، والعمل على هامش الشرائع، وامتهان الكرامات وتحقير إنسانية الإنسان، وكل ذلك بجمال شعري، في التعبير عن الغاية وبدقة متناهية في الوصف وبحقائق نيرة يقولها أرناندس على لسان بطل قصته (مرتين فيرو):

في كل طريقٍ اجتازها سواي
أنا مرتين فييرو سأمرُّ بها
لا شيء يصدّني عن عزيمتي
ولا الأشباحُ سوف تُخيفني
وحيثُ يجلسُ كلُّ مُنشدٍ
أنا أيضاً أجلسُ لأغنّي
منشداً سألفظُ أنفاسي
ومنشداً سوف يدفنوني…
و(مرتين فييرو) يمثل (الغاوتشو)[1]، الذي يذكّرني ـ كثيراً ـ بالفارس العربي الجاهلي، يذكرني بعنترة العبسي وبعروة بن الورد، يعرف حقّه، ويدافع عنه، ولا يتنازل عنه لأحد مهما غلا الثمن، وبلغت التضحيات:

أنا (غاوتشو) فافهموا لغتي
وكما تدلُّ عليّ لهجتي
طالما وُجدتِ البسيطةُ ضيقة
وطالما أردتُ أن تصبحَ أوسع
فلا الأفاعي تقربُ مني
ولا الشمسُ تلفحُ جبهتي

* * *

وُلِدتُ كما يولدُ الحوتُ
في عمق أعماق البحار
لا يمكنُ أحدٌ أن يسلبني
ما أعطاني إيّاه مبدعي
وما أتيتُ به هذا العالم
من هذا العالم آخذُه معي

وأخيراً لا بد من القول، إن الديوان يقع في ثلاثة وثلاثين فصلاً، جمعت في طياتها صوراً من الثورة، والفروسية، والحكمة.. جاءت بأسلوب رمزي أحياناً، وبأسلوب وصفي حواري أحياناً أخرى. وهذه الفصول جـديرة جداً بالقـراءة، ولمّا لم أكن أعرف هذا الديوان من قبل ـ فشكراً لبـديعـة، وسيسر، وجودت، وآنّا ماريا من الجالية العربية في بوينس آيرس، الذين قدموا لي نسخة من هذا الديوان، الذي آمل أن أراه متوفراً في المكتبة العربية، كنموذج للأدب الأرجنتيني، وإن أنس فلا أنسى أن أقول إليك: تحية من القلب يا (مرتين فييرو) يا رمز البطولة الأرجنتينية..
أحييك من هنا، من سورية، ورفاقَك بين طيات تراب الأرجنتين، وروحك ترفرف في هذا العالم، رمزاً للثورة والعطاء.

د.جودت إبراهيم

‐————————————————————–

[1] الغاوتشو: في الأصل الأرجنتيني البدائي، ثم أصبحت تدل مع الزمن على الرجل الكريم الشجاع، لما عرف عن الغاوتشو من اقتحام المصاعب والمغامرات، والكرم، والعطاء، والشجاعة، والإقدام…

اترك تعليقاً