المتنبي هو أحمد بن الحسين بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الملقب بأبي الطيب. وكان والده الحسين يعرف بعيدان السقّاء. وكان مولد المتنبي بالكوفة سنة ثلاث وثلاثمائة للهجرة, وكان شاعراً عظيماً مشهوراً. قدم الشام في صباه وجال في أقطارها (سورية ولبنان وفلسطين والأردن…) . كان أبو الطيب محبّاً للعلم والأدب, فصحِبَ الأعراب في البادية, وأكثر من ملازمة الورّاقين, وقد كان قوي الحفظ حتى قال عنه أحد الورّاقين:
” ما رأيت أحفظَ من ابن عيدان قط… كان اليوم عندي وقد أحضرَ رجلٌ كتاباً نحو ثلاثين ورقة ليبيعه, فأخذ ابن عيدان ينظر فيه طويلاً، فقال له الرجل: يا هذا أريد بيعه، وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت تريدُ حفظَه فهذا يكون ـ إن شاء الله ـ بعدَ شهر، فقال له ابن عيدان: فإن كنت حفظته في هذه المدة فما لي عليك؟ قال: أهب لك الكتاب. قال: فأخذت الدفتر من يده، فأقبل يتلوه، حتى انتهى إلى آخره”.
ادّعى المتنبي النبوة وقال: “أنا نبيٌّ مرسلٌ إلى هذه الأمة الضّالّة المضلّة..” فقُبِض عليه بسبب ذلك وأُودع السجن, وفيه كتب إلى الوالي شعراً منه:
بيدي أيّها الأميرُ الأريبُ
لا لشيءٍ إلّا لأنّي غريبُ
أو لأمٍّ لها إذا ذكرتْني
دمُ قلبٍ بـدمعِ عينٍ يذوبُ
إنْ أكنْ قبل أن رأيتُك أخطأتُ
فإنّي على يديكَ أتوبُ
عائبٌ عابني لديكَ ومنه
خُلقـتْ في ذوي العيـوبِ العيوبُ
ثم خرج من الحبس واتصل برجل رفع من ذكره عند سيف الدولة الحمداني حتى طلبه، وعاش في كنفه تسعَ سنوات كانت أخصبَ حياته وأحفلها بالإنتاج الأدبي.
وأحسنُ قصائد أبي الطيب ما قاله في سيف الدولة، وتراجع شعره بعد مفارقته، وسُئِل عن ذلك فقال: “تجوّزت في قولي, وأعفيت طبعي منذ فارقتُ آلَ حمدان”. فارقهم إلى كافور الإخشيدي في مصر ولم يكن حظُّ المتنبي في مصر أفضلَ من حظّه في حلب، فقد كان رائدُه في هذه الرحلة الطمع في أن يوليه كافور ولاية, أو يقطعه ضيعة, لذلك كانت مدائحه في كافور لا يمليـها قلب, ولا يدفـع إليـها إخلاص, فخانه التوفيق وأساء مواجهته في أول لقاء بقوله:
كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافيا
وحسبُ المنايا أنْ يكنَّ أمانيا
وقد باعدت المنايا أن يكنّ أمانيا، وقد باعدت شخصيته بينه وبين وزير كافور، وبذلك لم ينل الرضا، ولا ما كان يطمح إليه، ولم يرَ آخر الأمر بدّاً من الهرب، فتغفل كافوراً في ليلة عيد الأضحى سنة /350 هـ/ وهرب من مصر في رحلة طويلة، وفي هذه المناسبة قال قصيدته التي مطلعها:
عيدٌ بأية حالٍ عـدتَ يا عيدُ
بمـا مضـى أم بأمـرٍ فيك تجديدُ
ومنها يهجو كافوراً:
إنّي نزلتُ بكذّابينَ، ضيفُهم
عن القرى وعن الترحالِ محدودُ
جودُ الرجال من الأيدي، وجودُهم
من اللّسانِ فلا كانوا ولا الجودُ
مرّ في الرحلة بالكوفة, ومنها إلى مدينة السلام, وبها كان الوزير المهلّبي الذي كان ينتظرُ _ وقد نزل المتنبي مدينة السلام _ أن يمدحَه، لكنه لم يفعل ترفعاً بقدره أن يمدح غير الملوك، فأغرى به المهلّبي شعراء العراق حتى نالوا من عرضه، وتباروا في هجائه, وقيل له لمَ لا ترد عليهم؟ فقال: إني فرغت من ذلك بقولي لمن هم أرفع درجةً في الشعر منهم:
أرى المتشاعرين غروا بذمّي
ومن ذا يحمدُ الداءَ العُضالا
ومن يكُ ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ
يجدْ مرّاً به الماءَ الزُلالا
ويواصل المتنبي رحلته حتى يصل إلى الوزير ابن العميد بفارس، وفي طريقه إليه طمع الصاحب بن عباد أن يزوره بأصفهان، فأبى وقال: إن غُليماً معطاءً بالرّي يريد أن أزوره وأمدحه، ولا سبيل إلى ذلك، فصيّره الصاحبُ غرضاً يتتبع سقطاتِه، وهو أعلمُ بحسناته.
وفي سنة أربع وخمسين وثلاث مئة ورد على أبي الفضل ابن العميد بأرجان فمدحَه, وحسُنَ موقعهُ عنده، وكان بينهما ودّ واحترام، وهكذا حتى انتهى به المطاف إلى عضد الدولة بشيراز، ومدحه بمدائحَ كثيرة.. وترك شيراز محمّلاً بعطايا عضد الدولة وصلاته متجهاً إلى العراق, وفي طريقه إليها خرج عليه فاتك الأسدي, ومعه جماعة من بني عمّه, وكان المتنبي قد هجا ابن أخته (ضبّة) هجاء مُقذعاً منه:
ما أنصفَ القومُ ضبّه … وأمه الطُرطبهْ
وإنّما قلتُ ما قلـ‐—– ـتُ رحمةً لا محبهْ
وما عليكَ من القتلِ … إنّما هيَ ضربهْ
إلى آخر ما في القصيدة من الألفاظ القاسية، وما للمتنبي أسخف من هذا الشعر, ولا أوهى كلاماً منه, فكان مع ذلك سبب قتله, وقتل ابنه وغلمانه وذهاب ماله. ويقال: إنّ فاتكاً داخلته الحميّةُ لما سمع هجاء ابن أخته؟ فخرج عليه مع جماعته على الطريق في دير عاقول بينما كان المتنبي وابنه وغلامه وصحبه في طريق العودة، ونشبت بينهم معركة لم يستسلم فيها المتنبي بل قاتل حتى قُتِل هو وابنه وغلامه وبعض صحبه، وهكذا تنتهي حياة هذا الشاعر الكبير، والتي كانت كلها فروسية وترحالاً بحثاً عن العزّ والجاه ومصاحبة الملوك والشعراء.
د.جودت إبراهيم
اترك تعليقاً