أدب وفكر وماذا بعد؟

قديم جديد

كانت مدن العراق الكبرى مهداً لشعر المحدثين, أما قائدهم فيعتبر بشار بن برد الذي نشأ بالبصرة, وتوفي عام 178ه / 784م وكان أبوه طيّاناً, وقد ولد بشار أعمى, وكان ضخماً طويلاً, وقد سخر منه رجل بأن قال له كأنّك فيل, عرضك أثقل من طولك, ويحكى عن رجل أنه قال: “مررت ببشار وهو منبطح في دهليزه كأنه جاموس”.

وكان بشار إذا أراد أن ينشد شعراً صفق بيديه, وتنحنح, وبصق عن يمينه وشماله فيأتي بالعجيب.

ويحكى عن رجل أنه قال: “عهدي بالبصرة وليس فيها غَزِلٌ ولا غَزِلةٌ إلا يروي من شعر بشار, ولا نائحةٌ, ولا مغنيّةٌ إلا تتكسب به, ولا ذو شرفٍ إلا ويهابُه ويخشى معرّةَ لسانِه” على أنَّ بشاراً قصدَ بغداد وأنشدَ قصائدَهُ أمام الخليفة المهدي, ويقال: إنّه ألّفَ اثني عشرَ ألفَ قصيدةٍ من الشعر, وهو من أحسن ما يؤثر.

وكانت لغة شعر بشار هي لغة كلّ الشعراء القدماء, وكان بشار عليماً بأسرار اللّغة حتى عدّه القدماء حجةً, ولكن هذا كله كان على الطريقة القديمة, فلم يبتكر الشعراء المحدثون صوراً جديدة, ولا هم اكتشفوا مادة جديدة إلا نادراً, وإن كانوا افتتحوا قصائدهم بذكر الورد وأزهار الرياض والبساتين، على حين كان أهل البادية يفتتحون قصائدهم بذكر الخُزامى والعَرار ونحوها من زهر البرية, أما البحث عن الجديد فكان يتجلى في البحث عن الطرائف البديعة التي تخالف المألوف, لكن الميل إلى الطرائف والمسليات قتل في الناس الميل إلى شعر البطولة القديم.

وقد امتدحَ الجاحظَ لأنّهُ كان مؤسس الطريقة الجديدة التي تجمع بين الجدّ والهزل, وكذلك نال بشار ـ زعيم الشعراء المحدثين ـ إعجاب أبي زيد اللغوي والأصمعي, وأولُّ ما أعجبهما فيه أنّه كان يجد ويهزل, على حين أنّ منافسيه من المتمسكين بمذهب الأوائل لم يكونوا يحسنون إلّا واحداً من هذين, وكذلك أُعجب الأصمعي في بشار أنه كان أكثر تصرفاً في فنون الشعر, وأغزر بديعاً من غيره.

وكان “الطيب: وهو البديع المستطرف, في نظر الشعراء القدماء, شيئاً زائفاً , لا حقيقة وراءه, ولكنه انتشر عند المحدثين, وكانت الكلمة الجارية في وصف الشعر الحسن في القرن الثالث الهجري هي “البديع” أي المستحدث.

وقد تبوّأتِ المعاني المقامَ الأوّلَ كما هي الحال في كلِّ شعرٍ غايتُه الجريُ وراءَ المستطرفات , وكان الشعراء يتلمسون العباراتِ ذات المعاني الرائعة والتنويع في التّأليف الشعري, ومن هنا جاءت المعاني التي زادها بشّارُ بن برد وأصحابُه, فإنّهم أتوا “بمعانٍ ما مرّتْ قطّ” بخاطرِ جاهليٍّ ولا مخضرمٍ ولا إسلاميٍّ” وقيل لبشار: بمَ فقْتَ أهل عصرك في حسن معاني الشعر وتهذيبه؟ قال: “لأنّي لا أقبلُ كلَّ ما توردُه عليَّ قريحتي, ويناجيني به طبعي. ويبعث به فكري, ونظرت إلى معادنِ الحقائقِ ولطائفِ التشبيهات, فسِرتُ إليها بفكر جيد”.

ومن شعر بشار الذي يعدُّ مستحدثاً, ومثالاً للمعاني المبتكرة والشعر الجيد, قولُه في وصف حبّه, وهو المكفوف البصر, لصوت امرأة تكلمت معه:

يا قومُ أُذني لبعضِ الحيِّ عاشقةٌ

والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانا

قالوا: بمَنْ لا ترى تُهذي, فقلتُ لهم:

الأذنُ كالعينِ توفي القلبَ ما كانا

د. جودت إبراهيم

عن الكاتب

جريدة حمص

جريدة حمص أول صحيفة صدرت في مدينة حمص – سوريا عام /1909/ عن مطرانية الروم الأرثوذكس لتكون لسان حال المدينة.

تعليق واحد

  • نشكر جريدة حمص العريقة والقائمين على تحريرها، والمسؤولين عنها.

اترك تعليقاً