أدب وفكر وماذا بعد؟

هكذا علمتني الحياة

1. هكذا بدأت حياتي

ولدت طفلاً كما يولد جميع الناس في مكان لا يختارونه ، في قرية صغيرة بين جبلين وهضبة فَتَحتْ في خاضرتها ثغرة تُطل على جبال عكّار في لبنان ، كان الثلج يكلّل رؤوس تلك الجبال حتى أواخر أيام الصيف ، وكانت أرضنا المزروعة بالكروم موزعة بين تلك الجبال ، تأخذك مرّة إلى جبال عكار ، ومرّة أخرى إلى بحيرة قطينة وسهول حمص ، ومرّة ثالثة إلى قلعة الحصن ووادي النضارة ، ورابعة إلى شواطئ طرطوس وطرابلس ، وغيرها إلى روابي ضهر القصير الذي يحتضن في خاصرته اليمنى قريتي ” بحوّر “.

نشأتُ وترعرعتُ في هذه القرية الصغيرة التي ظلت إلى أن أصبحتُ فتىً، خاليةً تقريباً من الطرقات إلا تلك التي تستخدمها الحيوانات والمواشي بصعوبة بالغة ، وكنت وقتها أظن أن هذه هي الدنيا . نذهب إلى المدرسة الابتدائية ، ثم إلى البراري ، ثم نساعد أهلنا في العمل في الأرض ، ونستمع ليلاً إلى حكايات جدّي ، الذي روى لنا غير مرّة كيف تمكّن من الهرب مع مجموعة من الشباب من الأسطبل الذي حشرهم فيه ” الجندرما ” مرّات عديدة في منزول الشيخ ديوب عاصي الديوب ليقتادوهم في اليوم التالي بعد ليلة سكر وخمر إلى حيث لا يعودون إلى أهلهم البتّة ، فقد أخذوا والد جدي وتركوا امرأته وأطفاله وأكبرهم جدي الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة قبل بداية “سفر برلك” الحرب العالمية الأولى ولم يعد. فحرّض جدي رفاقه على كسر القفل الخشبي للباب، وهربوا في ليلة من ليالي شباط الباردة، وتوجهوا كلٌّ إلى حيث يستطيع أن يجد ملجأ له… وكان بين هؤلاء رجل من قرية بحور رافقه جدي كي لا يذهب وحده في ليلة باردة مظلمة يجتاز خلالها ضهر القصير الذي كثرت فيه الضباع والذئاب والوحوش وقطّاع الطرق . ثم بقي جدي في هذه القرية وتزوج منها ، وصار معلماً ثم كاهناً ، وأقام فيها .

علمتني تجربة جدي وحياتي في قريتي الصغيرة هذه كيف يجب أن يكون الإنسان عِصامياً يعتمد على ذاته، وهكذا بدأت حياتي .

2. وسـام الأسـرة

كان جدي في البداية معلماً، ثم صار والدي معلماً ، طبعاً وفق أنظمة التعليم في النصف الأول من القرن العشرين في القرى السورية . فأخذ والدي يعلمنا في البيت أصول الكتابة والقراءة قبل أن ندخل رسمياً إلى المدرسة ، ثم انتقلت في الثالثة عشرة من عمري إلى بلدةٍ مجاورةٍ هي “شـين” حيث درست فيها المرحلة الإعدادية ، كنا نمشي مرّة – عشرة كيلو مترات – ونركب في بوسطة مرّة ، وعلى ظهر البوسطة مرّة ثالثة، أو في مقطورة تراكتور مرة رابعة وهكذا…. ، هل يمكن أن نتخيل الآن طفلاً أو طفلين في الثالثة عشرة من العمر يسيرون على الأقدام في أيام الثلج والمطر والضباب بين جبال وعرة نائية لابشر فيها ولا حياة إلا بعض الحيوانات التي ترعب الكبار؟ فكيف الصغار؟ …. وكم من مرّة رأيت القط فظننته ثعلباً، والثعلب فظننته ذئباً …. وكم من مرّة تعرضت لخطر الموت على الطريق ، وكم من مرّة أساء إلينا بعض الوضيعين باعتبارنا غرباء …. ولا أنسى ما حييت صفعة قوية من موجِّهٍ أو أمينِ سرٍّ في المدرسة على وجهي لأنه طالبني عدّة مرات برسوم النشاط المدرسي والتعاون …. ولم أكن أتمكن من تسديدها ، فنحن عشرة أخوة وأخوات والكل يتعلمون ، ولا يوجد راتب في البيت . وكنت أحتج دائماً “بوسام الأسرة من الدرجة الأولى” الذي منحته الدولة لوالدي باعتباره أنجب عشرة أولاد ، فهذه أسرة تتألف من اثني عشر فرداً تستحق ذلك الوسام . ثم حصلتُ على الشهادة الإعدادية .

أصبح أخوايَ الأكبران معلمين ، فانتقلت أنا وبعض أخواتي الأصغر مني سناً إلى مدارس مدينة حمص ، وهناك كنت أتعلم شتاءً وأعمل صيفاً ، حيث يتاح لي العمل ، أيّ عمل فحصلت على الثانوية، وانتسبت إلى جامعة دمشق ، وعملت في الوقت ذاته معلماً وكيلاً ، ثم موظفاً في مطار دمشق الدولي ، فانفتحت أمامي الآفاق وزرت عدداً من بلدان العالم ، وتخرجت في جامعة دمشق ، ثم انتسبت إلى الدراسات العليا ، ثم عُيّنت معيداً في جامعة البعث ، ثم أوفدتُ للحصول على درجة الدكتوراه فحصلت عليها من جامعة تبيليسي الحكومية في جمهورية جورجيا السوفيتية ، وأصبحت عضواً في الهيئة التدريسية في جامعة البعث ، وكان اثنان من أخوتي قد أصبحا ضابطين في الجيش ، وواحد أصبح دبلوماسياً ، والسابع صار مهندساً ، وكان كل واحد من أفراد أسرتي يقدّم ما لديه لأخوته ليتابعوا طريقهم، ولأهله ليساعدهم في تكاليف الحياة . فتعلمت من الحياة أنّ الأسرة وسام ٌ فعلاً ، وسام للمحبة والتعاون .

3 . أجمل ما في الوجود:

تزوجت وأسست أسرة تشكل في ناظري أجمل ما في الوجود ، بيتي يذكرّني بقصة ذلك الفنان الرّسام الذي قضى بضع سنوات من حياته يسجل بريشته الجمال حيث كان ، ولكنّه لم يقتنع بما أبدعته ريشته من لوحات فراح يبحث عن أجمل شيء في الوجود ليرسمه ، وهو في الطريق وجد رجلاً من رجال الدين فحيّاه وسأله عن أجمل شيء في الوجود فقال : ” الإيمان يا سيدي أجمل شيء في الوجود فإنّك تجد ما يغنيك في أي بيت من بيوت العبادة ينتمي لأية عقيدة من العقائد”.

وراح الفنان يواصل البحث فوجد عروسين حديثي العهد بالزواج ، فتقدّم منهما ووجّه إليهما السؤال نفسه ، فقالا : “الحبُّ يا سيدي أجمل ما في الوجود ، فإنّ الحبّ يحيل الفقر ثروة ، والظلمة نوراً ، والدموع فرحاً لا طعم للحياة بدونه ولا جمال إلا به …” . وتابع الرّسام البحث عن غايته إلى أن وصل إلى شاطىء بحر ، وهناك عند الشاطىء وجد جندياً يجلس على شاطئ البحر ساهماً فاقترب منه وحيّاه وأخذ يحدثه ، وعندما فهم الجندي أمنيتَه قال : ” السلام يا سيدي أجمل ما في الوجود ، والحرب أقبح شيء فيه ، وحيث يوجد السلام يوجد الجمال بأعلى مراتبه وأرفع درجاته …” فأطرق الفنان وهو يتمتم : “الإيمان والحب والسلام ” ترى كيف أصوّرها ؟!

وعاد الفنّان إلى البيت وهو مكدود الذهن من التفكير ، ولكنّه ما إنْ دَخَلَ عتبةَ بيته حتى وجد بغيته ، ففي عيون أطفاله رأى الإيمان مجسَّماً ، وفي بسمة زوجته رأى الحبّ ناطقاً ، وفي أرجاء البيت كان السلام الذي حدّثه عنه الجندي ….. فرسم صورة أجمل شيء في الوجود وعندما فرغ منها سمّاها ” البيت “.
4 . أنـــا والآخـــر:
لم يكن حصولي على درجة الدكتوراه ، ولا على عضوية هيئة التدريس في الجامعات ، ولا على مرتبة الأستاذية هدفاً نهائياً ، بل كان كل ذلك نقطة انطلاق جديدة لي ، فرُحتُ أبحث وأنقّبُ وأكتب وأؤلّف، وأدرّس ، وأمارس العمل العلمي الإداري ، وأشرفت وأشرف على رسائل الطلاب الباحثين ن في الدراسات العليا ، الراغبين في الحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه ، كنت خلال تجربتي هذه أباً لكل طالب وطالبة وأخاً لكل زميل ، وصديقاً لكل عامل وعاملة ، أحترم القوانين والأنظمة ، وأسعى جاهداً إلى حلِّ مشكلات الآخرين ، أحترم الآخر رئيساً ومرؤوساً ، أعرف حدودي ، لا أنحني لأحد ، لست قاسياً ، ولكنني لست ليناً ، أتسامح في كثير من الأحيان ، أستمع أكثر مما أتكلم ، وعندما أتكلّم أقول في داخلي : ” لعلَّ أحداً بين مستمعيّ يعرف بهذا الأمر أكثر منّي” فلا أتبجّح ولا أدّعي ، وأبحث عن الحقيقة مع الآخرين ، مؤمناً بمقولة ڤولتير الشهيرة :
” قد أختلف معك في الرأي … لكنني على استعداد لئن أدفع حياتي ثمناً لحقك في الدفاع عن رأيك … ”

5 . العلم والعمل:

نمرّ نحن والعالم في مرحلة متغيرات ، ويعيش الناس والدول في حالة سباق والسؤال الكبير الذي يواجهنا في كل صباح : أين نحن ممّا يجري ؟ أين نحن أفراداً ومؤسسات ؟ كيف نبني بيتنا الكبير ” الوطن ” ؟! الذات تطغى على كل شيء والفساد يملأ الدنيا …. لمن نترك هذا البناء ؟ لماذا نلقي بأحمالنا على أكتاف الآخرين ؟ لماذا نتجاهل أدوارنا ؟

مطلوب من كل واحد منا أن يعمل وكأنّه يبني وحده هذا البيت ، وأنّ هذا البيت له وحده، نعمل بصمت وبصبر، نعمل ليلَ نهار ، فالعمل هو جوهر الحياة ، نحب بعضنا بعضاً ، ولا يخوّن أحدنا الآخر ، ولا يلغيه ، ولا يكفّره ، نؤمن بالعلم ، فبالعلم والعمل تبنى الحضارات . لنكن أحراراً كما ولدتْنا أمهاتنا ، وسادة كما كان أجدادنا ، وأطفالاً في سلوكنا ، ورُسلاً كما كان أنبياؤنا، نحمل رسالة إلى العالم ، رسالة المحبة والخير والسلام.

د. جودت ابراهيم

اترك تعليقاً