يُحكى عن الخليفة عمر أنه نظر إلى قوم من قريش صغار الأجسام، فسألهم: ما بالكم صغرتم.؟ أجابوا: قرب أمهاتنا من آبائنا، فقال: صدقتم، اغتربوا وتزوجوا من البعداء تنجبوا.
والأدب زهرة عطرها الشعر، تنمو في شجرة المعرفة على أغصان العلم والفلسفة والتاريخ، وكلما رسخت الجذوع، وأينعت الغصون، نضرت ألوان الزهرة وتضوّع أريجها، وما أجمل الزهرة التي تزدري ماء الحياة الدافق حولها، ولا تشرب إلا الندى الهابط من الجو البعيد، إن غذاءها لا يدوم وعمرها لا يطول.
وهاجر بعض الشعراء العرب إلى الأمريكتين، وأوروبا وأستراليا وغيرهم، فماذا أنجبوا؟
يقول ميخائيل نعيمة: “إن الشعر المهجري أدى رسالته للشرق كاملة، فكل ما جاء بعد فهو نور على نور” فما هي تلك الرسالة؟
إذا كانت رسالة الأدب السامي تقوم على إنكار الذات والتضحية بالنفس في سبيل الوطن وبنيه حتى تتوفر لهم الحرية والكرامة والسعادة، وإن كانت رسالة الأدب الأسمى تقوم على التجنيد لخدمة المثل العليا والسعي لخير الإنسانية جمعاء حتى يعيش البشر في عالم أفضل، فهل اضطلع الأدباء المهجريون بواحدة من هذه الرسالات؟
فريق من أدباء المهجر اتسم بالطابع الإنساني المثالي، وفريق بالطابع القومي الخالص، ولكنهم جميعاً دون استثناء أدَّوا رسالة الأدب إلى المجتمع ورسالة الأدب إلى اللغة العربية.
فجبران ونعيمة في كل إنتاجهما، والريحاني وأبو ماضي وعريضة في بعض ما أنتجوا، أعطوا للإنسانية من مواهبهم وأرواحهم، وبشروا بتعاليم سامية نفذت منها روحانية الشرق إلى البيئات الأجنبية، وكان تأثيرها بليغاً في البيئة الأمريكية حيث كانت النفوس مفتقرة إلى فلسفة روحية، إلى جانب الفلسفات المادية الغامضة الواردة من أوروبا، والتي شبّهها جبران بالمرايا تعكس رسوم الأشياء ولا تراها، بالكهوف تُرجع صدى الأصوات ولا تسمعها، فوصلت رسالة الشرق الروحانية في حين الحاجة إليها.
وكانت رسالتهم القومية رسالة إيقاظ وإنقاذ، أيقظت الوعي القومي وحفّزته إلى تحطيم الأنيار في ثورة تحررية تعقب الثورة القلمية، وتنقذ الوطن العربي من عبودية الاستعمار.
أول من قام بهذه الرسالة الريحاني الذي وقف قلمه على نصرة العرب، وتبعه الشاعر القروي، شاعر الوطنية، دفاعاً عن قضيتهم، ومثله فرحات مُطلق القذائف النارية من قصائده الوطنية، وهكذا نسيب عريضة، وميخائيل نعيمة الذي اختلج قلبه بعاطفة وطنية عصفت فيه يوم وصلته أخبار المجاعة في لبنان، فزفر تلك الزفرة الدامية في قصيدة أخي:
أخي من نحن؟ لا وطنٌ ولا أهلٌ ولا جارُ
إذا نمنا إذا قمنا ردانا الخزي والعارُ
لقد خمّت بنا الدنيا كما خمّت بموتانا
فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقاً آخر
نواري فيه أحيانا.
هذه الرسالة القومية تساير الرسالة الإنسانية في مراميها ولا تناقضها لأنها تدعو إلى إقامة العدل وإعلاء الحق، وإعادة الحرية لوطن هو جزء من الوجود الشامل، ولشعب هو جزء من الإنسانية، وسعادة الكل تقوم على سعادة كل جزء منه.
د.جودت إبراهيم
اترك تعليقاً