أدب وفكر وماذا بعد؟

وبالسياسة تدوم النعم

وثقتُ له بالنصر إذ قيل قد غزت

كتائبُ من غسانَ غيرُ أشائب

إذا ما غزَوا بالجيش حلّق فوقهم

عصائبُ طير تهتدي بكتائب

ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلولٌ من قراع الكتائب

هذه الأبيات من قصيدة للنابغة الذبياني الشاعر الجاهلي، قالها في مديح الغساسنة ووصف وقائعهم الظافرة على أعدائهم، يتحدث الشاعر عن الحرب والغزو والنصر والجيش والكتائب.. إذن هذا الرجل يتحدث بالسياسة.. فهل هذا الشعر من الشعر السياسي؟ وهل كان الجاهليون العرب يعرفون السياسة؟
نحن نعلم أنه لم يكن للعرب في جاهليتهم دولة واحدة تضم شتاتهم، وإنّما كانت كثرتهم تعيش في ظل نظام القبيلة، وكان للقبيلة نظمها وأعرافها وسيّدها ومجلسها القبلي، ولكن هذا كلّه لا يجعلها بمثابة الدولة، ولا يجعل الشعر الذي يقال في سبيلها شعراً سياسياً وإنّما هو شعرٌ قبلي.. فمقومات الدولة تختلف عن مقومات القبيلة، ومدار الشعر السياسي في الدرجة الأولى على نظام الحكم، وعلى صلة الدولة بالرعية، في حين أن الشعر القبلي يدور حول النزاع الذي يقوم بين القبائل على موارد الماء ومنابت الكلأ، وحول الإشادة بفضائل القبيلة، ومع ذلك فقد عرف العصر الجاهلي بواكير الشعر السياسي، فالعرب لم يكونوا في جاهليتهم يعيشون جميعاً بمنأى عن أي تنظيم سياسي، فثمة دويلات قامت في أطراف الجزيرة العربية وأواسطها منذ القرن الثالث الميلادي، وكان ظهورها مرتبطاً بالصراع الحربي المتصل آنئذ بين دولتي الروم والفرس، ونعني بها الدولة التي أقامها المناذرة في الحيرة، والغساسنة في بلاد الشام، ودولة كِندة التي قامت في بلاد نجد، ودولة تدمر… وغيرها، وهذه الدويلات عرفت نوعاً من التنظيم السياسي يأذن لنا بأن نسمي الشعر الذي قيل فيها شعراً سياسياً.

قامت دولة الحيرة في وقت مبكر فقد استقرت فيها طوائف من قبائل العرب التي نزحت من جنوبي بلاد العرب، وأسّس بنو نصر اللخميون دولتهم منذ أواسط القرن الثالث الميلادي، في رعاية الدولة الفارسية التي أرادت أن تفصل بينها وبين عرب الجزيرة ودولة الروم بدولة ـ هي دولة الحيرة ـ تخضع لسلطانها وتذود عنها هجمات القبائل العربية وتكون بمثابة خط دفاع أول في وجه دولة الروم، عدوها اللّدود، ولهذه الدوافع السياسية قامت دولة الغساسنة في بلاد الشام منذ أواخر القرن الخامس الميلادي، مستظلة بسلطان دولة الروم.

أما دولة كندة فقد قامت أولاً في بلاد اليمن، ثم نزحت قبيلة كندة واستقرت في بلاد نجد، وكان آخرَ ملوكها حجرُ بن الحارث، أبو الشاعر امرئ القيس، الذي قتله بنو أسد لطغيانه واشتطاطه في فرض الأتاوات عليهم.

وقد كانت الصلة بين هذه الدويلات صلة العداوة والمنافسة في أغلب الأحيان، وقامت بينها حروب متصلة بسبب تنازعها السلطات على قبائل العرب واختلاف مصالحها وانتماءاتها السياسية، وكان من صور المنافسة بينها حرص كل منها على استدعاء الشعراء إلى بلاطها وتقريبهم وإكرامهم ليشيدوا بمناقبها ويهجوا أعداءها.

وأشهر من كان يختلف إلى هذه الإمارات من شعراء الجاهلية النابغة الذبياني، وعلقمة بن عبدة، وحسان بن ثابت، وطرفة بن العبد، والمثقب العبدي.. وغيرهم..

وكان من مفاخر قبيلة تغلب أن سيّدها الشاعر عَمراً بن كلثوم قتل ملك الحيرة عمراً بن هند حين حاول أن يحط من منزلته ومنزلة قومه، فقال معلقته بعد قتله ابن هند:

أبا هِندٍ فَلا تَعَجَل عَلَينا

وَأَنظِرنا نُخَبِّركَ اليَقينا

بأنا نورد الرايات بيضاً

ونصدرهن حُمراً قد روينا

بِأَيِّ مَشيئَةٍ عَمرُو بن هِندٍ

تُطيعُ بِنا الوُشاةَ وَتَزدَرينا

ومثل هذا كثير، فالسياسة خبزهم وخبزنا اليومي، فالويل لمن ينام جائعاً.

د. جودت إبراهيم

عن الكاتب

جريدة حمص

جريدة حمص أول صحيفة صدرت في مدينة حمص – سوريا عام /1909/ عن مطرانية الروم الأرثوذكس لتكون لسان حال المدينة.

اترك تعليقاً