غيظ العِدا من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نغصّ فقال الدهر آمينا
فانحلّ ما كان معقوداً بأنفسنا
وانبتّ ما كان موصولاً بأيدينا
حالت لفقدكم أيامنا، فغدت
سوداً، وكانت بكم بيضاً ليالينا
لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا
إذ طالما غيّر النأي المحبينا
دومي على العهد- ما دمنا- محافظةً
فالحُرّ من دان إنصافاً كما دينا
الله يا أبا الوليد:
أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون من أشهر شعراء الأندلس، أصرَّ بعض طلابي أن أتحدث لهم عنه في إحدى مقالاتي التي أكتبها في جريدة حمص، وها أنذا أفعل.
هذا أيها الأعزاء كان وما زال يحتلُّ الصدارة بين شعراء الأندلس، فقد كان يملك عبقرية ذاتية، كما كان رجلاً سياسياً، وشاعراً، وكاتباً وسفيراً، ووزيراً، ونستطيع أن نقول:
إنّ ابن زيدون كان اسماً كبيراً في القرن الخامس الهجري، تقلبت به الظروف، فوضع في السجن وبقي فيه سنتين، وقد تكون ولاّدة بنت المستكفي الأميرة الأندلسية محبوبته سبباً غير مباشر في دخوله السجن، وذلك لأن وزيراً آخرَ كان ينافسه على حبها، وهذا الوزير هو ابن عبدوس الذي ربما يكون قد نصب له شباك المؤامرة فأوقعه في السجن، ووراء كل أمر عظيم امرأة.
وكانت ولاّدة تقول الشعر وكانت تستقبل الشعراء السياسيين في شبه منتدى أدبي، فأخذ ابن زيدون يرتاد منتدى ولاّدة ويجالسها، وما نشك في أن ولاّدة قد وجدت في هذا الشاعر عدداً من الميزات جعلتها تلتفت إليه دون مَنْ حوله، هذه الالتفاتة مِن ولاّدة إلى ابن زيدون تطورت إلى لقاءات خاطفة، كانت تتم في أجواء قرطبة وقي قصر ولاّدة.
ولقد أقبلت ولادة على ابن زيدون في بادئ الأمر إلا أنها ما لبثت أن تركته لكن ابن زيدون ظل متعلقاً بها خلال مدة سجنه.. وبعد أن خرج ظل متعلقاً بأهداب أحلامه، إلاّ أنّ شعاع الأمل بدأ يخبو رويداً رويداً إلى أن تحول إلى تعلق بالحب الذي تمثل في شخص ولاّدة لا بولاّدة نفسها، وقد قيل في أسباب اختلافهما أشياء كثيرة، ولكن برأينا إنّ تشابه الشخصيتين تشابهاً يكاد يكون متطابقاً يجعل النفور بينهما أمراً سريعاً، وإنّ عدم تنازل كل واحد منهما عن شيء من كبريائه قد يكون من أسباب الفراق، يضاف إلى ذلك أن إحساس ولاّدة بمكانتها وحبها للانطلاق والحرية قد تكون من أهم الأسباب التي أدت إلى القطيعة.
قالوا في وصف ابن زيدون إنه كان وحيدَ زمانه ظرفاً وأدباً ورقة ولطفاً، فهو إذن يتمتع بشخصية قوية جذابة محبوبة، جعلت ولاّدة الشاعرة الفائقة الجمال تقول فيه:
ترقّبْ إذا جَنَّ الظلامُ زيارتي
فإنّي رأيت الليلَ أكتمَ للسر
وَبي منك ما لو كانَ بالشمسِ لم تلح
وبالبدر لم يطلع وَبالنجم لم يسرِ
أما شعر ابن زيدون فكان يصدر عن مودة متبادلة.. كان حديثاً عما يعاني منه شخصان معاً، فهو يتحدث بلسان نفسه.. ويتحدث بلسان ولاّدة ولهذا نجد بعض المقطوعات تتداخل في نسبتها… بعضهم ينسبها إلى ولاّدة وبعضهم ينسبها إلى ابن زيدون…
ومثال ذلك المقطوعة الآتية:
ودَّع الصبرَ محبٌّ ودَّعك
ذائع من سرّه ما اسـتودعك
يا أخا البدر سناء وسناً
حفظ الله زماناً أطلعك
إنْ يطل ليلك بعدي فلكم
بتّ أشكو قصر الليل معك
وهي أبيات رقيقة تنساب العذوبة منها في معانيها الشفافة وفي ألفاظها الرقيقة، وفي تعبيرها عن موقف إنساني دقيق.
فكما أنّ ابن زيدون شاعرٌ للغزل من الطراز الأول، نجد في ديوانه بعض القصائد التي تطرّق فيها إلى وصف الطبيعة، ومن أشهرها قصيدته القافيّه التي مزج فيها وصف الطبيعة، وحديثه عن ولاّدة، فجاءت قصيدة غزلية من جهة ووصفية من جهة أخرى، فإنّه جعل الطبيعة تشركه حبه ووجده وأشواقه، وتتأثر وتشفق عليه، وهذا من أجمل ما نعرف من الشعر الذي يعتمد على المشاركة الوجدانية يقول:
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا
والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتـلال في أصائله
كأنّما رقّ لي فاعتل إشفاقا
فإن جمال الطبيعة من أرض معشبة ومزهرة، وجو معتدل جميل في الزهراء البارعة البناء، الجميلة القصور والبساتين، جعلته يتذكر ولاّدة ـ وجعلتني أتذكر قريتي (بحور) في حمص ـ وأياماً سابقة معها، ووجد في النسيم العليل صورة من نفسه وأشرك ذلك النسيم في إحساساته، فخيل إليه أنه شفَّ ورقَّ إشفاقاً له وحنوّاً عليه:
والماء عن مائه الفضي مبتسم
كما شققت عن اللبّات أطواقا
ووجد في صورة الماء المترقرق تحت أشعة الشمس مفضضاً جميلاً صورةً لصورها على وجه من وجوه التشبيه والتمثيل.
* وهكذا يُخلَّد الشعراء…..
د. جودت إبراهيم
مقالة رائعة ..أنت مبدع دكتور