نحن اثنان متطابقان، لكننا في الوقت نفسه واحد، كثيراً ما يلازمني ويمشي أمامي أو ورائي، يخرج من قدمي طويلا شامخاً، بعض الاحيان قزما قصيراً لا أكاد أراه أو أحس بوجوده.
أحياناً يختفي في الظلام ثم يعود فيظهر مارداً في أوقات أخرى على الجدران أو في الطرقات على الأرصفة في الليل وأحياناً ينحرف جانباً ملتصقاً بقدمي ثم يختفي قبل أن يقول شيئاً.
يتسلل ببطء ورائي، لا أعلم لماذا يظهر ثم يختفي، أشعر أحياناً أنه جزءٌ مني بل هو أنا، أحياناً أود لو أنفصل عنه، أن أمسحه من وجودي كأنه لم يكن، أشعر أحياناً أخرى بالكراهية نحوه، أود أن يختفي من حياتي الى الأبد ولا أعود أراه مرة ثانية.
ذات مرة رأيته على الجدار في المنزل، كان طويلاً بما يكفي ليصل رأسه الى السقف، تغلبت على خوفي الطويل منه، أردت أن أواجهه وأعرف نواياه وماذا يريد مني، قلت بصوت فيه نبرة من التحدي: «من أنت؟ وماذا تريد مني؟ لماذا تتبعني؟»
يقلد صوتي ومفرداتي قائلاً: «أنا ظلك، أنا الجزء المظلم منك، أنا الماضي الذي لا تريد أن تراه، أو تريد أن تنساه، خسائرك، أخطاؤك وعثراتك، إخفاقك، نزواتك، هفواتك، عداواتك وأحلامك الفاشلة»
قلت ساخراً: «أنت فقط ظل مني، أنا الأصل وأنت الظل، بدوني ليس لك وجود، أنا من صنعك»
يقول بنبرتي الساخرة نفسِها: «أنت لا تعلم مدى إفادتك مني، بدوني لم تكن تملك الخبرة بالحياة ولما كانت حياتك لها معنى، الظل والنور وجهان لعملة واحدة وبدوني لما وصلت في النهاية الى شيء ذات قيمة».
تابع كلامه قائلاً: «إذا نظرت الى اللوحات الفنية المرسومة بالألوان الزيتية بأيدي كبار الفنانين، سوف تعرف أهمية الظلال والنور في اللوحة، بدونهما لن يكون للوحة أية قيمة فنية أو جمالية ولن تكون صورة فنية على الإطلاق».
أقول مستغرباً: «عن أي شيء تتحدث عنه أيها الظل، هل تدّعي أنك رسمت شخصيتي وملامحي، وبدونك كنت بلا ملامح ولا سمات؟»
يقول موضحاً : «نعم، أنا من فعل ذلك، بدون الفشل، بدون العثرات والصعوبات لما وصلت إلى شيء ذي قيمة، التضاد بين الظل و النور، بين الأسود و الابيض، بين مكونات النفس البشرية بين الخير والشر، بين الصح والخطأ، بين السعادة والألم هو الذي أدى إلى أن تكون أنت هو أنت، لولا سواد الحبر لكنت صفحة بيضاء فارغة بدلا من أن تكون كتاباً يقرأه الآخرون.
أقول له « حسناً ماذا تريد مني الآن؟»
يقول مجيباً بثقة من تمرّس على أيدي الزمن: « عليك أن تتصالح معي وتقبل بي كما أنا، أن تقبل بالماضي بكل ما فيه من سلبيات وايجابيات، وخساراتٍ ومآسٍ، بكل ما فيه من قرارات صائبة أو خاطئة، لأنك لن تستطيع أن تغير شيئاً فيه، لك اللحظة الحاضرة والغد وبعد الغد، ليكن الماضي لك مدرسة اسمها مدرسة الحياة تعلمت فيها دروساً دفعت ثمنها غالياً من حسابك الخاص، والآن بعد رحيل العمر أصبحت نظرتك أشمل وأوسع، أصبحت تستطيع الخروج من بوتقة نفسك الى الاندماج بذرات الكون الرحيب»
شكرته على نصائحه القيمة، ومددت يدي مصافحاً، لكنني لم المس أي شيء، تذكرت أنه مجرد ظل.
م. سعيد فركوح
اترك تعليقاً