بقلم الإعلامي سعد الله بركات..
بين حين وآخر ، تلسعني أيام الحصاد بذكرياتها، لما قبل 60 عاما ويزيد، وهل تنسى؟ بلهيبها التموزي، ولكني أتذكّر معها ” قبر الأمير ” حين كنّا نصله فجرا راجلين لنلحق بالزرع رطبا وتطول نهارات الشقاء، لولا ما يسعدنا من كرم الرعيان بطاسة حليب طازج، لم نعد نذقه من هاتيك الأيام ..
وطالما تذكرته أيضا وبفخر، حين كنّا نقرأ أشعاره ، متوقفين عند أشهر أبيات ” رائيته :
((ونحن أناس ، لاتوسّط بيننا لنا الصدر دون العالمين ، أو القبر))
إعرابا وشرحا ، أو شاهدا شعريا في النحو أو الفخر .
قلت قبر الأمير، وأعني به ، االفارس الشاعر ” أبا فراس الحمداني، نعم ،لقد توسّد هذا الأمير – الملك ، تراب بلدتي ” صدد” جنوب شرق حمص ، على ما قال الشاعر :
((وعلّمني الصدّ من بعده … عن النوم مصرعه في صدد
فسقيا لها إِذ حوت شخصه … وبعداً لها حيث فيها ابتعد))*
والبيتان وردا في، تاريخ أبي الفدا وهما ،، لأبي إسحاق الصابىء ،، كما يرجّح الباحث طادرس طراد في كتابه الصادر 2020 أبو فراس الحمداني …ومصرعه في صدد ..من الصدر إلى القبر. أبو فراس ومثواه في صدد.
وهو الأول من نوعه، ومن أبناء البلدة، لتدارك ما تجلّى من تقصير في غفلة نقل الرفات إلى قلعة حمص بلا ذكر مكان مقتله ودفنه في اللوحة التذكارية للنصب الذي أقيم هناك ، وليس في البلدة ، ولا شاهد للقبر، أقلّه، فقد لامس ماتركه ذلك من تأثّر وأسى في نفوس أهل صدد حين (( أحسّوا أنهم فقدوا جارا عظيما ورمزا كبيرا …))… ، كما حين أورد قصيدته وقصيدة الشاعر المرحوم يوسف حنّون اللتين تعبّران عن الحسرة والعتب على ضرب حكاية وثّقتها كتب التاريخ: ((كان أبو فراس الحمداني [واسمه الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي الرَّبَعي] أميرا على حمص، فجرى وحشة بينه وبين ابن أخته سعد ،، أبي المعالي ،، بن سيف الدولة ، وكان للأخير حين توفي مولى اسمه قرغويه ، طمع في التسلّط، فنادى بابن سيده ،،أبي المعالي،، أميرًا على حلب، آملًا أن يبسط يده باسم أميره على الإمارة بأسرها، فأوفد أبو المعالي جيشًا بقيادة قرغويه، فدارت معركةٌ قُتل فيها أبو فراس. وكان ذلك في ربيع الأول سنة 357 هـ (4 نيسان 968 م) على مشارف بلدة صدد جنوب شرق حمص ، وقد واراه أهلها التراب …كونه لجأ اليهم لعلاقة خؤولة معهم ، كون أمّه رومية ، وأبو فراس لم يصل إلى البلدة ، فعلى الطريق قتلوه ، وحملوا رأسه إلى ،،سعد الدولة ،، وقيل لو أنه وصل صدد لما قتلوه .. )).
نعم ، شعر بعضنا بالتقصير ولكن متأخّرا ، فكم يحزّ في نفسك ،حين تقرأ مانقل عن صفحة الأديب عادل محمود ، أنه لم يكن يعرف ما تناقلته أجيال ، أن ،، قبرالأمير،، أبي فراس الحمداني، في بلدة ،، صدد ،، حتى زارها 2010 مشاركا في مهرجان عراقتها .
بقدر ما أسفت لذلك ، بقدر ما سرّني تنوّيه الصديق الشاعر توفيق أحمد ،لهذه الواقعة التاريخية خلال تقديمه لمخطوطي الإعلام والناس حين نوّه بوسط نشأتي، كما رسالة من الصديق الناقد د. عادل فريجات ، وإشارته لمثوى الحمداني في ،، صدد،، .
ولعله من رد فعل متأخر وجدت نفسي 2007 مبادرا مع لجنة أصدقاء المركز الثقافي ومديرته ميادة فلفل ، لنشاط ثقافي باسم الحمداني ، كان في نيتي خلق حالة تنافسيّة مع مهرجان ،،العراقة ،، وفي الخاطر حلم بما يرتقي لذكرى المحتفى به، على غرار مهرجاني المعري وأبي تمام ..
كان طبيعيا الاتفاق على ذكرى مقتله 4 نيسان موعدا لاحتفالية سنوية (استمرت 3 سنوات ). فكيف لا يحتفى بأمير الفروسية والشعر، بل ملكه ، على رأي الصاحب بن عباد : (( بدء الشعر بملك وانتهى بملك ، بدأ بامرئ القيس وانتهى بأبي فراس الحمداني )) كيف لا ! والقائل :(( الشعر ديوان العرب )) كان صنو المتنبي ، ولولا مصرعه المبكر( 36 عاما)
لكان له شأن آخر في الشعر كما في الحكم . أما نقل الرفات على حين غرّة، فقد وجد صداه الشعري عاجلا لدى الشاعرين طا دروس طراد ويوسف حنون في قصيدتين ، وكان لهما أيضا وقعهما في الاحتفاليات. أبو فراس مقيم ما أقامت ،، صدد،، عنوان ذي دلالة لقصيدة طراد :
((أيرحل عن أرض المحبّين عاشق وتبقى له فيها الصبابة، والذكر
فكيف “عصيّ “الدمع” تجلو رفاته وفي أرضنا السمراء تضّوع العطر
عتابي على الأصحاب، كيف الذي جرى أنسمح بالأبطال، أينك يا كبر
تبّخرحلم ، راوّد العمر طيفه فهل نشهد التمثال، إن أسعف العمر؟
ففي “صدد” السمحاء، قامت قبابه ومصرعه فيها، وفي تربها التبر))
حسرة جماعية صاغها أيضا الشاعر حنّون ،، أبو طلال،، في قصيدته ،، وداعا أبا فراس ،، نشرتها جريدة العروبة الحمصيّة ،في لفتة مقدّرة لها ، بعيد نقل الرفات وممّا قال فيها على وقع موسيقى حفيدته:
((إنّ ركب الأمير ينوي رحيلا فاحضنيه يا عين بالأهداب
أين أزمعت يا أمير ، فمهلا أمللت المقام بين الصحاب؟
أم سئمت التراب ، والحق أنت في صميم القلوب لا في التراب
أم نسيت الجوار والناس فيه لايحبون فرقة الأحباب ))
الشاعرة أمل خشوف ، عبّرت عن افتخار صدد بالحمداني ، بما ينمّ عن تعلّقها بذكراه وواقعته التاريخية ، فاستحضرت مناقب الشاعر الفارس على وقع قصيدة ،، روائع السيف والقلم ،، التي خصّته بها :
((أبا فراسٍ أطِـلَّ اليـوم َعن كـَثَبِ
واسـمعْ مدائـحَ عن سـاداتِنا النُّجـبِ
ياشاعرَ الحربِ خُضْتَ الحربَ مفتخراً
وقلتَ : خوضُ حياضِ الموتِ من إِرَبي
يافارساً ماكَبَتْْ في الحَـربِ قُدرتُـهُ
وإن أُسِــرْتَ فما أثنــاكَ عن طلـبِ
هي الشَّجاعةُ إنْ حربٌ وإنْ طَـرَبٌ
إنْ تظهر الصَّـبرَ في الأَمرْيـن تُسـتَجَبِ
وإنْ ذََكَرْتَ القِرى أَنتَ الذي أَلِفتْ
قِـرى يمـينـِك آلافــاً مـن العــَرَبِ
أحببْ بذكـرِكَ ذكراً تلكَ مَكرُمَــةٌ
خـلـَّدتَ فيها من في الأَمـْجـادِ والأدبِ))
كما أزجى الشعراء الضيوف عبد الكريم الناعم ، مجيب السوسي ، محمد وليد المصري ود.غسان لافي طعمة ، في قصائدهم التحايا للشاعر الذي عرف بشجاعته وصبره على الأسر والملمّات، وكان للموسيقى حضورها بمعزوفات رائعة للموهوبتين ،، مرح وقمر صافي عساف ،،.
كان طبيعيا حضور شعر أبي فراس ذاته ، قراءة من طلبة الثانوية ،،مطانس مقصود ،، ، وغناء ،، أراك عصي الدمع ،، شدتها رنيم بركات على وقع موسيقا جميل عمّاري ، وذلك بتوجيه وإشراف مدرّسة العربية ليلى الشيخ ، ، فيما قدّمت مدرّسة العربية مريم كدر ، بحثاً عمّا تجلّى من طموح وبأس في شعر الأمير ، وعن مقتله المبكر الذي حال دون تحقيق طموحاته، قبل أن تقدّم دراسة لجانب من روميّات “الحمداني” في احتفالية ثانية، وقد ضمّنتهما نماذج من شعره بإلقاء شاعرة منغمسة في مقاصد الحمداني ومعانيه. وكان لطراد دراسة مقارنة ،، بين المتنبي..وأبي فراس ،، وأخرى للمرحوم المربي تادروس الشيخ ، عن أبي فراس وشعره، فيما قدّم المؤرخ د. منذر الحايك بحثا عن ولاية الحمداني في حمص ،منوه بأسفه لنقل رفاته إلى حمص. كما عقدت حلقة كتاب عن مجموعتي الشاعر حنون “نزيف الحروف وأضواء”المشاركة اللافتة كانت لتلاميذ ،،مدرسة أبي فراس الحمداني ،، آنذاك ، وللعرس الصددي الذي قدمته فرقة الشبيبة والطلائع ، وسط تكريم أربعة من روّاد البلدة في التعليم ،، تامر بجور – فرج مقصود – حبيب العرب – يوسف بطش ،، وكان في النية تكريم الجميع، وجرت الفعالية الاخيرة بتمويل ذاتي من أصدقاء الثقافة.
لم يغب موضوع النصب التذكاري عن البال، فقد حصلنا 2008 على موافقة الوزارة، لكنها ضاعت في أدراج مديرية الفنون، وجرت محاولة مع البلدية لسور مكان القبر و شاخصة ، على أمل معرفة صاحب العقار لأخذ موافقته، وفي الأثناء، بادر السيد ناصيف قسطون – أبو ثائر لاستعداده المساهمة، وحبذا لو كان للحمداني نصيب في ملتقى النحت، فلعلّ المشرف بشير بطش لاينسى وعده بالاستدراك، ليبقى الأمل معقودا على الهدف ،وهو ترسيخ علاقة هذا الأمير الشاعر ببلدة ضمّه ثراها (شمالا ) لألف عام ويزيد.. تخليدا لذكرى وتنشيطا لذاكرة .
وفي صدد ذلك نورد لمحة عن الكاتب اﻹﻋﻼﻣﻲ ﺳﻌﺪاﷲ ﺑﺮﻛﺎت
الكاتب أول ﻣﻦ دﺧﻞ ﻣﺠﺎل اﻟﺼﺤﺎﻓﺔ واﻹﻋﻼم ﻣﻦ أﺑﻨﺎء ﺑﻠﺪﺗﻪ ﺻﺪد وﺟﻮارﻫﺎ. حصل على إﺟـﺎزة ﻓﻲ اﻟـﺼـﺤـﺎﻓـﺔ، إﺟﺎزة ﻓﻲ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻌﺮﺑﯿﺔ، دﺑﻠﻮم اﻟـﺘﺄﻫﯿﻞ اﻟﺘﺮﺑﻮي.
تولّى إدارة اﻟﻤﺮاﻛﺰ اﻹذاﻋﯿﺔ واﻟﺘﻠﻔﺰﯾﻮﻧﯿﺔ ﻓﻲ ﺳﻮرﯾﺔ 3 سنوات وإدارة الأخبار في الفضائية 10 سنوات كما و شارك في ﺗﻐﻄﯿﺔ أﻋﻤﺎل ﺑﻌﺾ ﻣﺆﺗﻤﺮات اﻟﻘﻤﺔ اﻟﻌﺮﺑﯿﺔ و الزيارات الرئاسية. ﻋﻀﻮ ﻓﺮﯾﻖ ﻋﻤﻞ اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ اﻟﻌﺮﺑﯿﺔ ﻹﻧﺸﺎء ﻃﺮﯾﻖ ﻋﺮﺑﻲ ﺳﺮﯾﻊ ﻟﻠﻤﻌﻠﻮﻣﺎت. معد ﺣﻮارات وبرامج إذاعيّة وتلفزيونية، و أدار ﻧﺪوات ﺟﻤﺎﻫﯿﺮﯾﺔ ﻣﺘﻠﻔﺰة ” اﻹﻋﻼم واﻟﻨﺎس ” ﻓﻲ اﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺎت، وبرنامج حوار خاص 3 سنوات مع شخصيات عربية و مغتربة. كذلك برنامج ،،الساعة الخامسة والعشرون ،، اليومي على الفضائية 6 سنوات.
نذكر أنه شارك في دورات إﻋﻼﻣﯿﺔ (ﻣﻮﺳﻜﻮ- ﺗﻮﻧﺲ و لندن BBC ). ونال جائزة مهرجان الإعلام السوري الثالث عن إعداده وثائقي ،،حكاية صدد حكاية وطن ،، وكرّم الفيلم في مهرجان صدد العراقة 2019. الذي كان ﻣﺴﺘﺸﺎراً إﻋﻼمياً للمهرجان لمدة 4 سنوات.
ﻛﺘﺐ ﻓﻲ ﺻﺤﻒ ﺳﻮرﯾﺔ وعربية ويكتب في مواقع سورية واﻏﺘﺮاﺑﯿﺔ. صدر له كتابان ،،شمعة في الظلام ،، أوراق من وجع الغربة،، وله 4 مخطوطات. كما انه عضو في اﻟﻤﺆﺗﻤﺮ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﻻﺗﺤﺎد اﻟﺼﺤﻔﯿﯿﻦ اﻟﺴﻮرﯾﯿﻦ.
وكان قد أطلق ﻟﺠﻨﺔ أﺻﺪﻗﺎء اﻟﻤﺮﻛﺰ اﻟﺜﻔﺎﻓﻲ واﺣﺘﻔﺎﻟﯿﺔ أﺑﻲ ﻓﺮاس اﻟﺤﻤﺪاﻧﻲ ﻓﻲ ﺻﺪد 2007.
كل الشكر لجريدة حمص وادارتها على جهودها واهتمامها ببلدتي صدد
* الإعلامي سعدالله بركات