آراء حرة

《 غريغوريوس خوري.. هل يستوي خطاب الدين والعلم 》

عندَ ذهابي إلى محاضرة المطران غريغوريوس خوري التي دَعَت إليها واستقبلتها الكنيسة الإنجيليَّة المشيخيَّة الوطنيَّة في حمص، كان لا بدَّ لي من البدء في تسجيل المشاهد في ذهني، كصورٍ وكأفكارٍ أيضا، ربَّما كعادتي فذلك ما يُشَكِّل ذخيرةً أعيد صياغتها أبحاثا ومقالات ودراسات، وأحيانا قصصا قصيرة وقراءات نقديَّة. وبالفعل هذا ما حدث، وها أنا أفرد لِلقُرّاء الأحِبّة هذه المساحة الصَّغيرة، لأشاركهم في إطلالتي على الحدث.

أولى تَشَكُّلات المشهد بدأت لديَّ قبل أيّامٍ عندما وصلتني الدَّعوة للمحاضرة من الكنيسة المشيخيَّة، ضمن سلسلة من المحاضرات الّتي سَيُطِلُّ من خلالها عدد من رجال الدّين المسيحي من مختلف “الطوائف” في مبادرة شكَّلت بالنِّسبة لي خطوة جريئة في الاتِّجاه الصَّحيح، ليس فقط للهدف الأبسط “وحدة الطَّوائف المسيحيَّة في التَّقويم والأعياد” ولكِنَّها خطوة مُهمَّة ترنو إلى هدف أسمى وأكثر تعقيدا وإرباكا بالنِّسبة للإنسان حامل العقيدة بشكلٍ عام.. ألا وهو الانفتاح في التَّفكير والحوار.

وأنا أمُرُّ على هذا الشَّأن الّذي يبدو دينيَّا بالنِّسبة للبعض، لا بدَّ لي من أن أوضِّح أنَّني أنظر إليه من زاويتي العلميَّة كشخصٍ مهتمٍّ بالعلوم ويتَّخِذُ منها منهجا في الحياة، (وهذا ما سيقود قراءتي هنا عن محاضرة المطران) ولذلك أعتبرته من وجهة نظر اجتماعيَّة، خطوة في الاتِّجاه الصَّحيح، لأنَّ التَّلاقي والحوار والتَّفاهم، ليست إلّا عناوين تجميعيَّة إيجابيَّة في انعكاسها على صِحَّة المجتمع.

بالدُّخول إلى محاضرة المطران غريغوريوس، أجدني أمام عدَّة محطّاتٍ ذات دلالات ومعاني، فالجلسة افتُتِحت بعد التَّرحيب من قبل الأستاذ كفاح طانيوس وهو مدير المكتبة في الكنيسة المشيخيَّة بكل ما يعطي ذلك من دلالات، بكلمة لراعي الكنيسة القس أدون نعمان تميَّزت بالانفتاح المُدَعَّم بتلك الرَّغبة في الاقتراب من بقيَّة الكنائس والنَّاس أيضا مستشهدا بعبارة مكتوبة على أحد جدران كنيسة الأربعين (وهي كنيسة لطائفة أخرى) ليعطينا القس نعمان المثل بالسُّلوك الشَّخصي بعد أن قدَّمته كنيسته بالمبادرة كَكُل.

كنت قد حضرت الأمسية يحدوني ذلك الدّافع البحثيُّ للتَّعرُّف على خطاب ديني من أحد كبار رجالاته، سعيا لإجراء المقاربات العلميَّة والوجدانيَّة معه، بحيث أرى من جهتي كشخص شغوف بالبحث العلمي، مدى توافق أو تفارق ذلك الطَّرح مع ما أراه وأعرفه من العلوم.. وبالفعل بدأت أتلَمَّس درب المنهج العقلي لدى سيادةِ المطران، عندما بدأ حديثه بشرحٍ واضحٍ عن ماهيَّة مداخلته حول موضوع الصَّوم، مقسِّما تلك المُداخلة تحت عنوانين..
– الصَّوم كضرورة لإعادة فلترة وإحياء الذّات.
– الصَّوم كأداة تربويَّة.

هكذا بدأ المطران حديثه مُتَسلِّحا بإمكانات شخصيَّة عالية في الخطابة بصوت واضح مُكتنزٍ بالمشاعر، وأداء متوازن من حيث توزيع النَّظر على الحاضرين، وحتَّى هؤلاء الذين تواجدوا في شعريَّة الكنيسة (شرفة تطل على بهو الكنيسة) مع الحفاظ على وتيرة من طرح الأسئلة الاستطراديَّة على الجمهور، دون أن تغيب النكتة اللَّطيفة عن حديثه، وبفواصل زمنيَّة غير مُتباعِدَةٍ، ما أعطى حديثه تشويقا ومكَّنَهُ من الحفاظ على اهتمام وانتباه الحاضرين.
تحدَّث مُستخدِما مثالا تبسيطيَّا قاد مداخلته في شقِّها الأول، حيث شبَّه الإنسان بالماكينة التي لا يُمكِنُها أن تعمل بشكل لا نهائيٍّ دون الحاجة لوقفات لإجراء “الصّيانة الدَّوريَّة، والفلترة، وإعادة الشَّحن” وهنا أتوافق معه تماما فالإنسان بالفعل بيولوجيا وفيزيولوجيا، هو مجموعة من الأجهزة التي تعمل وفق آليات مُحدَّدة، وضمن وسط حيويٍ مناسب، وهذه الأعضاء تحتاج للراحة وللتَّجديد وإعادة التَّأهيل، وفكرة الرياضة وحدها تشرح هذا المعنى، فهي ترفع أداء الجسد وتُمكِّنه من تنظيف نفسه، وتُتعِبه ثمَّ تطلب له الراحة، كما أنَّها تستلزِم نظاما غذائيّا متوازنا يدعم نشاط الجسد من جهة، ويحميه من جهة أخرى. ولكن المطران خوري لم يتوقَّف عند الجانب الفيزيائي من موضوع الذات، ولكِنَّه انتقل للتّأكيد على الحاجة لإعادة فلترة وتقويم النَّفس أيضا، وهنا نستكمل حلقات التَّلاقي بين الطَّرح الدّينيِّ، وبين التَّفكير العلمي، فالإنسان وفق علم النَّفس والاجتماع هو أيضا يحتاج للضوابط من جهة، بحيث تُغني حياته وتعطيها قيمها عبر تلك الحدود التي تعطي كل أمر جماله وأبعاده الجاذبة، كما أنَّه بأمسِّ الحاجة للتَّفريغ النَّفسيِّ من فترة إلى أخرى، ولا يُمكِنُه الاستمرار بالتَّمتُّع بصحَّة نفسيَّةٍ وجسديَّةٍ دون هذي وتلك.

إنَّ أهمَّ ما طرحَهُ المطران في حديثه عن شق الفلترة النَّفسيَّةِ والجسديَّة، تجلّى في نقطتين تَتَّفقان مع العلم بشكلٍ كبير، وهما:
– الصِّيام يتَّخِذ قيمته الفضلى عندما يتحول إلى نمط حياة، ولا يبقى حبيسا لفترة أسابيع وأيام، يعود بعدها الإنسان ليتخلى عن الضَّوابط الَّتي تهدف لحمايته أولا.
– الصّيام ليس هدفا ولكنَّهُ وسيلة وأداة، لذلك فلا ضير عند اتِّباعِه من تعديلِه تبعا للحالة الصّحيَّة للمريض وفقا لرأي الطَّبيب في ذلك.

بعد ذلك انتقل محاضِرُنا إلى الحديث عن قيمة الصِّيام في الجانب التَّربوي، منوها إلى ضرورة وضع الحدود والضَّوابط للأبناء أثناء رعايتهم ليكبروا بشكل متوازن وصحيٍّ، مع تأكيده على نقطة في غاية الأهميَّة بشأن “ضرورة تقديم البديل” عند منع الطفل أو المراهق عن القيام بأمر ما يُضِرُّ به أو بمستقبله. وأكد أنَّ ذلك البديل يجب أن يكون “متعوبا عليه، وجاذبا أيضا” وإلا كيف سيُقبِل أبناؤنا عليه مُتَخلّين عن تلك المُتَع الَّتي تَحمِلُ المخاطر عليهم. وهنا مجددا وجدتُ ضالتي في التَّلاقي بين ما أحمِلُهُ من ذخيرة معرفيَّة، ومن سعي دؤوب للبحث والتَّعمق بالعلوم، وبين ما يقدِّمه رجل دين أرثوذكسيٍّ مُنفتح.

أخيرا.. أودُّ أن ألفت نظر القارئ المحترم، بأنَّ تلك المقاربات المنطقيَّة بين الطرح الدِّيني الذي يحمله المطران غريغوريوس خوري وبين المنهج العلمي، لا تعني أنَّ هناك تطابقا كاملا بين الأمرين، كما أنَّ قراءتنا لطرحٍ منهجيٍّ يقدِّمُهُ أحد رجال الدّين، لا يختزل مشهد الفكر الدّيني واللاهوتي كاملا، فكما أنَّ العلم يحتوي على نظريات ومدارس ومناهج، فإن الدِّين بشقِّه الإنساني المتعلِّق بفهم الإنسان له، وبتحويله إلى أسلوب توعية وعيش وممارسة للإيمان، هو أيضا مثل كل عمل بشريٍّ يضم مذاهِبَ وتجلّياتٍ ورؤى، لم تكن في يوم من الأيام إلا تعبيرا عن غنى وتنوُّعِ ذلك الفكر البشري.. وربَّما تكمن أجمل تلك التَّجلّيات في الفكرة التي شرحها المطران في معرض حديثه عن الاهتمام بالذات، بصفته طريقة للاهتمام بالآخرين، ليس لتقييمهِم أو إدانتهم، ولكن للوقوف معهم وللبرِّ بهم.. إنَّ هدف الدّين هو مصلحة الإنسان، وهو ما أستطيع أن أجزم به بدوري كهدف للعلم، وإذ أجدني أتذكَّر قول العلامة المسلم محمد حسين فضل الله

“عندما يتعارض الدّين مع العلم، فإنَّهُ على الدّين أن يراجع أوراقهُ”

أجدني أيضا أؤكِّدُ على أنَّ صِحَّة تلك العبارة تنتج أولا عن كون العلم يقوم بمراجعة أوراقه هو الآخر، وبشكل مُستَمِر.

يزيد جرجوس
٢٤/٣/٢٠٢٤

اترك تعليقاً