كان حمدان يوجه بندقيته إلى رأسي بشكل مباشر، وعيناه ممتلئتان بالإصرار.. ولكِنَّ يديه كانتا ترتجفان.. ربَّما لم يشأ قتلي تماما، ولكِنَّه أراد تنبيه دماغي بصليةٍ من طلقات الإبداع.. والإنسانيَّة القوميَّةِ أيضا.. فأنا كنتُ فقط جالسا على كرسيٍّ مريحٍ، أتابع ذلك العرض المسرحي “أهدي سلامي” وحمدان لم يكن هو نفسه بالضَّبط، ذلك الفلسطينيّ الثّائر وصاحب الحقِّ الذي خَسِرَ بندقيَّتَه وأرضه ومُهِمَّتَه الخالدة في الدِّفاع عنها.. ولكِنَّه كان سامر أبو ليلى المخرج والمُمَثِّل والمُعِد، الذي استبدل بندقيَّة حمدان الفولاذيَّة، ببارودة خَشبيَّة مَطليةٍ بألوان فلسطين.. وبدأ يُطلِق نار الفكرة على رؤوس الحاضرين بيدين مُرتَجِفَتينِ.. وكيف لا يرتَجِف؟.. وهو كان قد تلقّى طعنة في الظَّهر.. حمدان أقصد.. وهل يستطيع مطعون بالظَّهر أن يُكمِل المَهمَّة!!
إنَّهُ المسرح أيُّها السَّادة.. بكلِّ هيبَتِهِ وجبروتِه، وقد انبثق من بين شرايين الجهات المعنيَّةِ به في مدينتِنا، من المسرح العمالي إلى المسرح القومي، إلى جامعة الرؤى والاجتهادات بين هذي وتلك.. وإنْ بأقلِّ الدَّعم المادّيّ.. مديريَّة الثَّقافة في حمص، التي تعوِّضُ نقص المادة بوفرة الإيجابيَّةِ والاحتضان.. فتفتح أبواب ونوافذ أمكنتها الرَّحبةِ لِيَهُبَّ في قاعاتها وصالاتِها نسيم المُبدعين.. وقد كنّا يومها على موعدٍ عاطفيٍّ مع نجوم المسرح.. سامر أبو ليلى وأعضاء فريقه المُجتهد على حدِّ سكين الوقت والظَّرف المُتحالِفين ضدَّ الحياة في سوريا، ولَكِنَّهم يواجهون دفاعاً ليس مُستميتا، إنَّما حيٌّ على وجه الدِّقَّة في التَّوصيف.. من قبل المجتَهدين وأصحاب الأفكار والأعمال.. فالفكرة بدون جهدٍ تموت.
عرض مسرحيٌّ تمَّ صُنعُهُ بكثيرٍ من الحرص والابتكار والحُب.. فمن لا يُحِبُّ فلسطين، لا يُحِبُّ سوريا.. ومن لا يُحِبُّ سوريا من أبنائها، لا يَعشقُ الحياة، ولا يحمِلُ القيم.. ساعةٌ من الوقتِ حملتنا على أكُفِّ المشاعر المُتراكِمَةِ والمُتزاحِمَةِ.. إلى شاطِئ الحُلمِ بفُلكٍ من صناعة سامر أبو ليلى، الذي أمْسى بمجاديفه مع مجموعة من الشَّباب والصَّبايا.. وكأنَّ حرفتَهُم صناعة الأمل في عُرضِ المُحيط الغاضِب، حيث اقتربوا بنا من شاطِئ الحلم كثيرا، دون أن ندرِكَهُ تماما، ولكنَّ نوارِسَهُ بدأت تحطُّ على أكتافنا وتدعونا إلى السِّباحةِ.. فمن أرادَ وطء اليابسة عليه بَذلُ الجهدِ في سبيلِها.
النَّص.. تم استيحاؤه من عدد من قصصِ الكبير غسان كنفاني كما يتمُّ تجميع باقةٍ من الورودِ بكلِّ ما فيها من عطور وألوان ٍ.. ومن أشواك.. في دمج إيجابيٍّ صنع منه أبو ليلى بعُمقِه المعرفيِّ وبرغبته الجامِحَةِ للتَّعبير عن الأمَّة، جسدا واحِدا مُتناسِقا ومُتداخِلا عبر حامِلِه الموضوعيِّ.. حمدان.. الفلسطينيُّ الَّذي يَعبُرُ الزَّمن مقتولا من نكبة ٤٨ إلى طوفان ٢٣ وهو يَحلُمُ ببندقيَّةٍ تُعيدُهُ إلى قلب الزَّمَن.. يرمي إلينا في رحلته كلَّ النماذج الَّتي فعلت وشاركت في صناعة النَّكبة والنِّضالِ والإخفاقات والخيانة والصُّمود في وجه التّاريخِ والانكسار.. عبر شخصِيّات: الأم الفلسطينية الصابرة والمتشبِّثة بأرضها في مواجهة من باع ومن انهزم.. والصَّبيَّة “الحاملة للأسرار الثَّوريَّةً، والإقطاعي الرَّخيص لدرجة أنَّه يُشترى بالمال.. والشَّباب المُجاهِد الّذي يَشتَري الوطن بِدَمِه، والخائف الذي يَخسَرُ المستقبل بتردُّدِه.. والفاسِدُ والمُغتَصِبُ أيضا.. شخصيّات كتبها غسان كنفاني في أكثر من قصَّة، وألَّفها سامر في متنٍ واحدٍ منسجم، وأدّاها عدد من الممثلين بأداء مُفعَمٍ بالرَّغبة والإصرار على التَّعلُّمِ والانطلاق.. فكان العمل المسرحيُّ البهيُّ، الذي حملنا جميعا على وِسادَةٍ طائرة من الدُّموع والحسرات.. من المشاعر والعبرات.. ليقولوا لنا إنّ فلسطين ليست حكاية منسيَّة، ولكِنَّها أرزة دائمة الخضرة والألم.
إنَّ وصفي الزاخر بالتَّرميز والصُّور لهذا العمل الراقي، ليس إلا انعكاسا له ولكميَّةِ الصُّور الرَّمزيَّة التي وضعها أمامنا، وحَوَّلَها إلى مجموعة من المرايا.. مرايا تعكسُ الواقع، ولكن بطريقة الموشور، فتَقومُ بتحليل الأضواء والألوان.. تفكِّكها تارة، وتَجمَعُها تارة أخرى.. حتَّى اختيارات الموسيقى والأهازيج التي كانت وكأنَّها تُشارِكُ في التَّشخيص ولعب الأدوار، خدمة لمشروع التَّرميز عن مسافة كافية لتحفيز الشُّعور، دونما تَعجُّلٍ في بلوغِ الاستقرار، بل على العكسِ في البقاء على صهوة مِنَ القلق.
بقي لي أن أقول بموضوعيَّةٍ: إنَّ “أبو ليلى”، وفريق عمله من المُمثِّلين الشَّباب، قدَّموا لنا جُرعة كبيرة من الشُّعور والتَّأمُّلِ في ذواتنا من خلال قضيَّتِنا المركزيَّةِ التي دفعنا ثمنها باهِظا وما نزال.. مُتَسَلِّحين بفريق عمل من الفنِّيين في الإضاءة وهندسة الصَّوت وإدارة الكواليس والديكورات على المسرح.. ولكنَّ هذا كلَّه لا يعني أنَّنا لم نَجِد في العرض نقاط ضعف تَستَحِقُّ الاهتمام والتَّطوير.. وخاصَّة على مستوى عفوية وحرفيَّة الممثلين الشَّباب، والتي بدت وكأنَّها اضطربت قليلا متأثِّرةً برهبة الخشبة والجمهور ربَّما.. وهذا عموما ليس إلا من صفات الحالة الإنسانيَّةِ للمسرح.. أداءٌ بشريٌّ يستمرُّ في التَّطور والارتقاء.. ومدرسة أكاديميَّة ينضج طلابها يوما بعد يوم.
لقد قدَّمَ لنا هؤلاء الشَّباب مع عرابهم “أبو ليلى” جُرعة كبيرة من أشياء كثيرة، تُحَسُّ أكثر بكثير مِمّا تُقال، ولهذا السَّبب ربَّما جاءت قراءتي النَّقديَّةِ هذه على مسافة غير قليلة من التَّصريح، متنعِّمة بهوامِشَ رحبةٍ من التَّلميح.
يزيد جرجوس
اترك تعليقاً