ليس متأخرا أبدا أن تَتِمَّ الكتابةُ عن فيلم “سوريون” للمخرج السوري المتألق باسل الخطيب (الفيلم إنتاج ٢٠١٦)، لا بل إنَّهُ حقٌّ وواجِبٌ، يستَقي أبعادَهُ من ارتكاسات المواطنة وإرهاصاتها في نفس سوريَّةٍ، تَتَلَمَّسُ معاني وجودِها عبر الإبداع وملامسة الحقيقة العميقة لذاتها، من خلال لعنة الحرب وعشوائيَّةِ الحياة. واليوم أجِده من المُهمّ والمُستَدعى بإلحاح علينا في ظلِّ الظُّروف شديدة القسوة والتَّعقيد التي نعيشُها في الإقليم، أن نعود لمثل هذا الفرط الشُّعوري الوطنيِّ والقوميّ.
لم تكُن قِصَّةَ فردٍ اسمهُ يوسف، بقدر ما كانت إطلالة من خلال البطل يوسف الذي أدَّى دوره باقتدار ومواءمة مُناسبة جِدّاً محمود نصر، إطلالة على النَّفس.. الإصابة.. المواجهة، ومن ثم العبور.. عبور مؤلم جدا، وبتكاليف باهظة فُرِضَتْ على الإنسان السُّوري تماما كما على وطنِهِ، فكان لا بدَّ من اجتياز مُستَنقع التَّماسيح، بكلِّ ما في ذلك العبور من خسارات، فالوحوش تنهش جَسَدك وأنتَ تَتَقَدَّمُ فوق الحِرابِ، ومن بينِ الأنياب المُشرَعَةِ لِقَضمِكَ دونَ رحمة.
بينما كُنتُ أحاوِلُ تجميع أفكاري من خلال استثمار مشاعري الَّتي حرَّكها الفيلم بشكلٍ عميقٍ وأنا أحضره لِلمَرَّة الثّانية، فكَّرتُ بذلك الاندماج بين جناحيه.. النَّص والإخراج، وأردتُ أن أسَجِّلَ للمُخرِجِ سيطرة رؤيتِهِ بشكل واضحٍ على العمل، وكأنَّهُ قد ساهم هو بكتابتِهِ أو لِنَقُل بإعادَةِ صياغتِه وفق مفهومهِ المُتَمَكِّن.. لقد كان دور المُخرج مُتعاظِما مُسيطرا، حتَّى انتَبَهتُ إلى أنَّ الفيلم من تأليف المُخرج نفسه، فوجدتُ حَلّاً لِذلك السُّؤال.
من بداية الفيلم تَحضُرُ عِدَّة عناصر متآزرة لِصِناعة الأثر النَّفسي العميق لدى المُشاهد، وتستَمِرُّ حتَّى المشهد الأخير.. الموسيقى التَّصويريَّة الَّتي تحكي وحدها جانِباً من الحكاية المُحزِنة ولكن بِشَرَف. ثمَّ المشهديَّة الّتي ركَّزَت على استخدام الطَّبيعة وحركة الكاميرا التي تكاد تجعل من كلِّ لقطَةٍ كادرا يُمكِن أن يُستَخدَمَ كلوحة فنِّيَّةٍ من التَّصوير الضَّوئي. وقد دَعَّمَ الخطيب كل ذلك برمزيَّة مُعيَّنة لاختيار مستوى الإضاءة الخافتة ذات السَّيطرة الرَّماديَّة أو المُعتِمَة، الّتي تُحاكي حالة الكَمَد والظَّلاميَّة الّتي رافقت أحداث الثَّورة السّوريَّة، وكلَّ سياقات الظُّلم والخوف والتَّدمير المُستمر لإمكانات الدَّولة والمجتمع، وتحويل حياة ملايين السّوريين إلى نفق مُظلِمٍ طويل.
في مشهد النِّهاية، وبرغم كمِّيَّةِ الحُزنِ الكبيرة التي يشحنها الفيلم بشكل متصاعِدٍ في نفس المُشاهِد، يظهر نور الشَّمسِ وخضرة الطَّبيعة، بصورة انتقالٍ شعوريٍّ مرنٍ وذي دلالاتٍ إيجابيَّةٍ مفتوحة.
الألبسة المدروسة بعناية، والَّتي لا ينتبه لها المُتابِع لشدَّةِ واقعيَّتِها واندماجها في المَشاهِد والقصَّة، أيضا كانت من عناصر نجاح الفيلم. ولكنَّ اختيار الممثلين ومطابقتَهم للأدوار كانت أيضا نافذة ناجحة أطلَّ منها المُخرج المؤلِّف على جمهوره العريض، مع مقدراتٍ عالية لكل المُمثِّلين الَّذين يبدو أنَّهُم عاشوا الأدوار بجوهرِها، وهذا ليس غريبا عن الفنانين السُّوريين، كما وأنَّه لا يغترِبُ عن واقعٍ عاشوه جميعا، وتاليا برعوا في تجسيده لشدَّةِ أثرهِ فيهم. فأبو يوسف (رفيق سبيعي) والِدُ البطل يأكل حتى بطريقة رجلٍ مُسنٍّ من الريف، لا يكترِثُ كثيرا لقواعِدِ “الاتيكيت” برغم أنَّه مُكترثٌ بكلِّ تفاصيل الأشخاص المحيطين به، يُبدي اهتمامه بهم دون أن يُحَطِّمَهُ خطف ابنه العسكريِّ أيوب أو اختفاؤه في الرَّقَّة بعد سيطرة عصابات داعِش عليها. كما أنَّ ابنة عمِّ يوسف (ميسون أبو أسعد) الّتي يبدو أنَّها ما زالت تُحِبُّهُ بعد سنوات من فعل خيارات الحياة المفروضة عليهم جميعا، تمرضُ وتَستَسلِمُ لِلمَرَضِ بطواعيَّةٍ مُؤلِمة، تُحاوِل ميسون إقناعنا بها وبأنَّها خيار شخصيٌّ لنوعيَّة الأيام الأخيرة التي يحِقُّ للمريض اختيارها، وأعتقدُ أنَّها نَجَحَت عند الكثيرين، وليس فقط في مواجهة يوسف وأبيه في الفيلم.
يبدو لي أنَّ كاريس بشار أيضا نجحت كثيرا في إبراز عفويَّة الخوف والشَّجاعة لدى سيدة سوريَّةٍ، تعيش اللامعقول في لحظات وساعاتٍ لم تكُن في الحسبان، لتَنتَقِلَ من امتصاص الصَّدمةِ إلى بثِّ روح البقاء في مواجهة اللّامعقول والقاسي، الذي يُحطِّمُ القلوب ولكِنَّهُ يَجِبُ ألا يكسِرَ الإرادات..
في الحقيقة أجد أنَّهُ من أهم ما نَجَح الفيلم في تقديمه على صعيد صناعة الشَّخصيات هو عدم إظهار الخصم أو العدو أو الآخر الشرير، بمظهر “المهرج” الّذي اعتادت الدراما العربيَّة عموما على استخدامِهِ بسطحيَّة مهنيَّةٍ مُحبِطة، ولكنّ الدراما والسّينما السّوريين نجحا كثيرا في تجاوزها.
في نهاية الفيلم يعود البطل لِيُطِلَّ على حياته السّابقة رمزيّا، وفق نظرة لم يَحسِمها المُخرج المؤلِّف، بقدر ما أراد أن يؤسِّسَ عليها ويقوم بإثبات حدوثِها، ثمَّ يترُكها للمشاهد ليفهمها كما يُريدُ عقله ويحتاج، وهي بالنِّسبةِ لي كانت على الأغلب انطلاقةً جديدة.
يزيد جرجوس
اترك تعليقاً