ملخَّص مشروعي الفلسفي
بُعَيد صدور كتابي “الأديان الحية” مع خلاصة بعنوان “ما هو الدين: مقارَنة وَصْفيّة”، وهو الثاني في مجموعة من خمسة كتب في فلسفة الدين(1) نَشرتُها بين 1983 و2015، أجرت معي جريدة “النهار” البيروتية حواراً قلتُ في نهايته: “إذا كان ثمة شعار أُطلقه انطلاقاً مما استطعتُ التوصل إليه فهو الآتي: لِنَبحَث عن الهويّة الدينية في نقاط الاتفاق، لا في نقاط الاختلاف. وهي هناك وغير قليلة. هذا لا يعني البتة طمس نقاط الاختلاف، وهي هناك أيضاً. لكنْ لنبحثْ أولاً عن الهويّة في نقاط الاتفاق، وبعد ذلك – بعد ذلك فقط – لنحاول الانتقال إلى النقاط الأُخرى”(2). ثم بعد صدور طبعة جديدة من فاتحة الخماسية، “الدين والمجتمع”، قلتُ في حوار مع ملحق النهار: “الخطّ الفكري الذي أَطلقتُه يعيد الاعتبار إلى نقاط التلاقي من غير أن يدعو إلى طمس نقاط الاختلاف. إلا أن نقاط التلاقي بين الأديان هي من الكثرة والجدّية بحيث تشكّل وحدة أو هويّة تَجمع الناس في العمق. إنّ عملي كفيلسوف هو البحثُ عن هذه النقاط وإبرازُها والانطلاقُ منها. وهو لا يلغي عمل اللاهوتي الذي يركّز على نقاط الاختلاف. إلا أن اللاهوتي لا يستطيع، بعد تأكيد ما سمّيناه الهوية في الاتفاق، أن يتابع عمله كأن شيئاً لم يكن. ولا بد من أن يأخذ هذه النقاط في الاعتبار، وأن يعدّل أفكاره في ضوئها”(3).
لقد شغلتني فكرة التنوع والوحدة منذ بداية تفكيري الفلسفي. وإذا شئتُ أن أُطلق اسماً على الخط الفلسفي الذي أَطلقَته كتبي الخمسة في فلسفة الدين، إضافةً إلى كتاب في النقد الثقافي بعنوان “هموم حضارية: في الثقافة والسياسة والنهضة المنشودة”(4)، فمن الأسماء التي يمكن وصف هذه الفلسفة بها: “الوحدة في التعدد” أو “الوحدة وسط التنوُّع”. وفي رأيي أننا واجدون التعبير الأول عن مفهوم الوحدة في التنوع، وربما عن معظم المفاهيم الفلسفية اللاحقة إن لم نقل عنها كلها، لدى أفلاطون، الذي دارت فلسفته على هذين المفهومَين. ونقع على الفكرة المحورية لديه، أي الميتافيزيق أو النظرة إلى الحقيقة، في نظرية المثل، التي تضع مصدر الكثرة ومآلها في مبدأ مركزي أَطلق عليه أسماء مختلفة، لكنها ذات مدلول واحد في نظره، هي: الخير، الجَمال، الحقّ، الله.
سأُحاول تطبيق فكرتَي التنوع والوحدة على النفس البشرية أولاً، ثم على المجتمع، وأخيراً على الدين. بالنسبة إلى النفس، نقع في تجربة كل فرد على تعددية هائلة تتعاقب فيها تيارات الزمان والمكان والأشخاص والظروف والحالات والأحداث. لكن ما لم يكن هناك عملية تنظيمية تضبط هذا التعدد في وحدات معينة، فمن الطبيعي جداً أن يصاب الفرد الذي تحصل له التجارب بالتهافت النفسي. والكثير من الأزمات النفسية التي يعانيها بعض الأفراد ترتبط بالعجز عن تبنّيهم أو ابتكارهم قوانين توحيدية من شأنها حفظ خبراتهم المتنوعة ضمن مبادئ تنظّمها أو توحّدها. أما الذين يطلقون العنان لتجارب الحياة تتقاذفهم من غير أن يتوقفوا بين الحين والآخر للتأمل فيها والبحث عن معناها فيشبهون قَوماً قال فيهم الشاعر تي إس إليوت: “كانت لنا التجربة لكنْ فاتَنا المعنى”(5).
هذا المعنى هو بالذات ما نقصده بالوحدة أو المبدأ التوحيدي. وتتنوع مصادره بتنوع الأفراد: فبعضهم يستمده من انتمائه الديني، وبعضهم من انتمائه السياسي، وبعضهم من انتمائه الفكري، فيما يستمده آخرون من تأملاتهم ومواقفهم وتجاربهم الشخصية. حتى الذين ينادون بالعبث، كما نجد في كتابات ألبير كامو الروائية والمسرحية، يرون في هذه العبثية أو اللامعنى نوعاً من المعنى. وبعض من يجد معانيَ عظيمة للحياة مستمَدة من مصدر ديني أو اجتماعي أو إنساني قد يفقد المعنى على أثر خبرات معينة مثل الموت أو خيبة الأمل. وإذ يجد الفرد نفسه متروكاً وسط تعددية هائلة من التجارب لا ينظّمها أو يربطها أيّ رابط معنوي، فهو قد يلجأ إلى الانتحار هرباً من مأزق أوصلته إليه التعددية الممزِّقة ولم يجد القدرة على احتماله. وفي علمَي النفس والاجتماع والعلوم السلوكية عموماً دراسات كثيرة لظاهرة الانتحار، حَدّدَت أحياناً دوافع هذه الظاهرة في فَقْد المعنى أكثر من تحديدها في اللامعنى.
نأتي إلى المجتمع بما يخص مفهومَي التنوع والوحدة. في كل مجتمع أنواع من التنوع أو التعدد. هناك، مثلاً، تنوع في العلم والمستوى التربوي؛ وتنوع في الطبقات الاجتماعية، مثل طبقة الأرستقراطيين أو البورجوازيين والطبقة الوسطى والطبقة الدنيا، وقديماً طبقة العبيد؛ وتنوع في العرق كالعربي والكردي والتركماني والأمازيغي والسرياني والأرمني في العالم العربي، مع لغة خاصة بكل من هذه الأعراق؛ وتنوع ديني ومذهبي، كالمسيحي والإسلامي والبوذي والهندوسي والسيخي والكاثوليكي والبروتستانتي؛ وتنوع سياسي يتجلى في الأحزاب وسواها من التنظيمات. لكن هَبْ أن بعض أنواع التعددية كانت عديمة الوجود في مجتمع أو آخر. هب أن أفراد مجتمع معيّن كانوا كلهم من عرق واحد، وهذا شبه مستحيل علمياً إلا إذا انحرفنا بمفهوم المجتمع عن معناه المقبول. هب أنهم كانوا كلهم من دين واحد أو مذهب واحد، وهذا ممكن إذا أخذنا الانتماء بمدلوله الاسمي. فلا يتوهّمنّ أحد أن التعددية تزول إذ ذاك من المجتمع. لأنه مع هذا كله، يبقى للتعددية معنى راسخ لا يمكن أن يزيله شيء، هو المعنى العددي. هكذا، كل مجتمع تعددي شاء أم أبى، وسوف يبقى على الدوام وتحت كل الظروف تعددياً شاء أم أبى، بمعنى تكوّنه من أفراد، أي من عدد. قد يكون هذا المجتمع عربياً خالصاً أو كردياً خالصاً، مسيحياً خالصاً أو مسلماً خالصاً، سنّياً خالصاً أو شيعياً خالصاً؛ لكن هذا “النقاء” العرقي أو الديني لن يزيل عنه البتة سمة التعددية.
طَرحتُ هذا المفهوم الجديد للتعددية وعالجتُه بدءاً من كتابي الأول في فلسفة الدين، وهو “الدين والمجتمع” (1983). قلتُ إن التعددية، بهذا المعنى العددي، هي واقع كل مجتمع(6). وهذا هو المعنى الأصيل والأقوى لمفهوم التعددية الاجتماعية، حيث تبقى التعددية قائمة تحت كل الظروف ويتعذّر محوُها أو تبديلها أو تعديلها. إنه المعنى الوحيد للتعددية الذي يصون القيم الاجتماعية، وفي رأسها الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الانسان. ويجدر بكل المنظّرين في الاجتماع والسياسة والفلسفة والدين إدراك هذه الحقيقة البديهية. وهذا الادراك يستتبع أخْذ الحقيقة المذكورة في الاعتبار من جانب المخططين والمنفذين وكل العاملين في إدارة شؤون المجتمع.
إلا أن هذه التعددية الهائلة على صعيد المجتمع يلزمها التنظيم أو التوحيد كما رأينا على صعيد الفرد. وكما في حال النفس البشرية، لا بد من أن يؤدي التعدد المطلق، أي ذاك الذي لا توحّده مبادئ معينة، إلى فوضى أو تَهافُت في النطاق الاجتماعي. وهذا واقع بعض المجتمعات، حيث الأعراق المختلفة أو الأديان المختلفة أو المذاهب المختلفة أو الأحزاب والتكتلات السياسية المختلفة أقوى من الدولة. وطالما حاولت إحدى هذه الفئات أن تكون “دولة في قلب الدولة”، أحياناً بهدف فرض المبدأ التوحيدي الذي يلائمها. وطالما حصل، باسم الديمقراطية أو مفهوم الأكثرية، تغليب عرق على بقية الأعراق أو دين على بقية الأديان أو مذهب على بقية المذاهب، بهدف بثّ الوحدة في مجتمع معين. وليس من النادر تحقيق التوحيد السياسي عبر اعتماد نظام الحزب الواحد، أي حزب السلطة، وحظْر كل حزب آخر، مع ما يستتبعه ذلك من هيمنة “رسمية” على الإعلام والتعليم والجمعيات الأهلية وكل المَرافق الاجتماعية.
يتبع حلقة ثانية
هوامش
1. أديب صعب،
– الدين والمجتمع، بيروت: دار النهار، 1983؛ طبعة ثانية، بيروت: دار النهار، 1995.
– الأديان الحية، بيروت: دار النهار، 1993؛ طبعة ثانية: بيروت: دار النهار، 1995؛ طبعة ثالثة، بيروت: دار النهار، 2005.
– المقدّمة في فلسفة الدين، بيروت: دار النهار، 1994؛ طبعة ثانية: بيروت: دار النهار، 1995.
– وحدة في التنوع، بيروت: دار النهار، 2003.
– دراسات نقدية في فلسفة الدين، بيروت: دار النهار، 2015.
2. جريدة النهار، بيروت، 14 آب/أُغسطس 1993.
3. ملحق النهار، بيروت، 18 آذار/مارس، 1995.
4. أديب صعب، هموم حضارية: في الثقافة والسياسة والنهضة المنشودة، بيروت: دار النهار، 2006.
5. “We had the experience but missed the meaning”, T.S. Eliot, “The Dry Salvages” (verse 93), in Four Quartets, London: Faber, p. 39.
6. أديب صعب، الدين والمجتمع، الطبعة الأُولى، ص 8.
اترك تعليقاً