في منتصف شهر تشرين الثاني سنة 1911، أعلنت المدرسة العلمية الأرثوذكسية في حمص عن إعطائها ما وصفته على أنه “هدنة” لطلبتها. وعقدت النية على تعويضهم ما يفوتهم من خلال تمديد أجل السنة المدرسية شهراً كاملاً، ودعتهم لصرف هذا الوقت بالمراجعات والاستعداد للرجوع إلى المدرسة حالما يتقلص ظل وباء قاتل اجتاح المدينة.
هذا الإجراء الذي اتبعته المدارس الغسانية الأرثوذكسية كان في إطار مجموعة من الترتيبات العامة لمواجهة الكوليرا (الهواء الأصفر)، وهي ترتيبات لا تختلف كثيرا عما يجري حول العالم حالياً في مواجهة انتشار فيروس كورونا، على الرغم من التطور الكبير الذي عرفه القطاع الطبي خلال السنوات المئة الماضية.
وتورد جريدة “لسان الحال” البيروتية عن مراسلها في حمص أن حكومتها آنذاك أقفلت المدارس إقفالاً رسمياً، وستظل كذلك عشرة أيام، فإذا تبين أن الوباء الأصفر خفت وطأته فتحت أبوابها وإلا بقيت مقفلة. ويؤكد المراسل أن الهواء الأصفر استفحل في المدينة حتى بلغ عدد الإصابات في أحد الأيام 25 والوفيات 10، ما عدا الإصابات والوفيات التي أخفى الأهالي أمرها ولم تعلم الحكومة بها.
ويتابع مراسل لسان الحال فيقول: «مع فتك الوباء في حمص وحصده النفوس حصداً، ولا سيما في الأحياء القذرة وبين الفقراء المساكين، لا نرى حكومتها مهتمة بنشر بيان رسمي تذيعه في الجرائد ليقف الناس على مبلغ فتك الوباء في تلك المدينة. على أن ذلك واجب على الحكومة يقضي به القانون، فعسى أن تتنبه إليه ليكون الناس على بصيرة.»
وتبدو الأعداد الرسمية للإصابات والوفيات في يوم واحد مرعبةً إذا ما علمنا أن عدد سكان مدينة حمص في تلك الفترة كان يقترب من 65 ألف نسمة، ولكن تشاء الأقدار ألا تستمر ذروة الهواء الأصفر سوى بضعة أيام لتمنح سكان المدينة فرصة استرداد أنفاسهم في سنة شهدت في مطلعها “التلجة الكبيرة” التي تقطعت بسببها سبل التجارة والزراعة.
وكانت حمص اعتادت انتشار الهواء الأصفر، وما يرافقه من حجر صحي وفرض نطاق على محيطها القريب يقيّد تجارتها مع طرابلس ودمشق وباقي بلاد الشام. وفي كل بضع سنوات كان الوباء يسجل حضوراً في المدينة كما جرى في سنوات 1848 و1852 و1865 و1875 و1890 و1895 و1903.
وفي مدينة، بلغ عدد سكانها نحو 40 ألف نسمة، كانت الإحصاءات الرسمية اليومية تشير في كثير من الأحيان إلى ما يزيد عن 30 وفاة يومياً بسبب الكوليرا في خريف سنة 1890. وبلغ الأمر من السوء أن أرسلت إدارة ولاية سورية إلى حمص وفداً من أطباء عسكريين ذوي مراتب رفيعة ومعارف واسعة، وأمرت بوجوب تأليف لجنة صحية منهم ومن الأطباء القانونين في المدينة لمواجهة فتك الوباء، وانُتخب الدكتور سليمان أفندي الخوري الحمصي رئيساً للجنة.
حصيلة وفيات الكوليرا في ذلك الوباء كانت 2000 شخص، وهي أرقام رسمية تقل كثيراً عن عدد الوفيات الفعلي، وفقاً لتقرير نشرته دورية “ذا لانسيت” الطبية في منتصف السنة التالية. ومع تراجع وطأة الوباء في نهاية 1890، جرى رفع نطاق الحجر الصحي عن المدينة، فكان أن انتقلت العدوى إلى مدينة طرابلس عن طريق راعي أغنام قادم من حمص، وتسببت الكوليرا في وفاة 500 شخص من أبناء مدينة طرابلس التي كان يبلغ تعدادها 25 ألف نسمة.
ولم تكن الكوليرا هي الوباء الوحيد الذي ذاقت حمص ويلاته، ففي مطلع سنة 1890 أيضاً قاسى أطفال المدينة من مرض الحصبة (الحرسن أو الحميرة) وفتك بالكثير منهم. كما تذكر كتب التاريخ أن حمص عانت كسائر مدن بلاد الشام من تفشي وباء الطاعون (الموت الأسود) حيث طالها طاعون جاستنيان في سنة 541 وطاعون عمواس في سنة 638.
وفي سنة 1192، وقع وباء (لعله الطاعون) في حمص فكان سببا في هلاك أكثر أهلها. ثم انتقل الوباء إلى أرجاء بعيدة حتى وصل إلى مصر بسبب الهاربين الذين مات بعضهم على الطريق. وفي سنة 1409، أصاب الطاعون حمص وحماة وطرابلس وماتت بسببه أعداد كبيرة. كما انتشر الوباء سنة 1422 في مدن حلب وحمص وحماة وهلك من الخلق عدد لا يحصى، حتى إن حلب خلت من أهلها.
وفي سنة 1430، تفشى الطاعون في دمشق وحمص ومات خلق كثير وارتفعت الأسعار واشتد الغلاء، ثم امتد إلى حماة وبوادي الشام، كما عمّ مدن شمال مصر والقاهرة حتى بلغ عدد ضحاياه نحو 100 ألف شخص على أقل تقدير.
ولم تسلم مدينة حمص من مرض الجدري الذي حل بها أكثر من مرة، خاصة في القرن الثامن عشر عندما كان المرض منتشراً في جميع أنحاء العالم باستثناء أستراليا. ولكن المخاوف من هذا المرض تراجعت كثيراً بعد بدء حملات التلقيح ضد الجدري منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وتورد جريدة “البشير” البيروتية أن 90 طفلاً في حمص و72 طفلاً في حماة تلقوا لقاح الجدري في سنة 1886.
في كثير من الحالات، كان انتشار المرض في المدينة ناتجاً عن أوضاعها الصحية المتدنية لا سيما مصادر المياه الملوثة حيث كان بعض السقّائين يجلبون المياه للبيوت من الساقية المجاهدية ضمن المدينة بدلاً من ملء قرابهم من مياه نهر العاصي النظيفة، وكان الفقراء في أغلب الأحوال يشربون من مياه الآبار الملوثة. ويشير البعض إلى أن انتشار الكوليرا بين الحيّاك في المدينة سنة 1890 هو نتيجة استخدامهم مياهاً ملوثةً في حرفتهم.
كما كانت البلدية تواجه مصاعب في تأمين النظافة العامة ضمن أحياء المدينة وفي جوارها. وفوق كل ذلك، كانت حمص على الدوام عقدة التجارة في الإقليم، وحيث ينتقل الناس والبضائع، تنتقل الأمراض والأوبئة.
يقول الفيلسوف الألماني يوهان غوته: «إن الذي يفشل في تعلم دروس السنوات الثلاثة آلاف الماضية يبقى في العتمة». وفي هذه الإضاءات على مواجهة مدينة حمص للأمراض الفتاكة نجد بعض قصص النجاح بفضل اللقاح والحجر الصحي وضمان سلامة المياه والغذاء، ولعل هذه القصص تقدم العبرة في الحرب الحالية على فيروس كورونا.
عبد الهادي النجار
اترك تعليقاً