من ذاكرة الجريدة

على ظهر السفينة

على ظهر السفينة

نظرة أخيرة .. نظرة مودع كئيب .. نظرة مشتاق إليك يا سورية بلادي .. إنني في عرض البحر الآن ووجهتي أميركا البلاد البعيدة وأم الاختراعات والغرائب .. إنني أنظر إليك الآن عن بعد وفي القلب إليك تشوقٌ وحنين وأفارقك يا بلاداً ولدت فيها ونشأت على أديمها وغذيت بلبنها وعشت تحت سمائها . أودعك وأودعك حبي وأمانتي يا بقعة جميلة سطع النور فيها لأول مرة على ناظري ولأول مرة عرفت فيها حقيقة الوجود وقد أصبحت الآن ناظراً إليك عن بعدٍ كغريب وأجنبي.

إليك مني السلام كلما حمل النسيم أريجاً زكياً وكلما شدت الأطيار على الأدواح وغنت غناءً شجياً ..
إنني أراك يا بلادي جميلة جداً وبهية .. بلاداً تفيض لبناً وعسلاً. كعروس يزينها الجمال الطبيعي .. بلاداً مخصبة منعشة للأرواح مقوية للأبدان ..

أولست أنت البلاد الخطيرة التي جرت فيها أعظم حوادث التاريخ منذ القدم؟ أولست أنت البلاد التي عاش فيها المسيح وقضى فيها الأنبياء حياتهم والعظماء أيامهم وهي بلادهم ومواطنهم؟ أولست أنت سورية الجليلة وها جبالك الشامخة تبدو لعيني كرؤوس ملآنة من الحكمة يتوجها شيب الوقار ويزينها سمو الارتفاع .. وأنّى لي برؤية لبنانك البهي بعد اليوم وبحرك المتوسط الساجد أمام تلك العظمة والفخامة؟

إنني أودعك يا سورية آسفاً على براحي إياك لا لكونك موطني فقط – وحب الوطن من الإيمان – بل لأنك مقدسة في عيني وجليلة لدي ومع ذلك فإنني برغبة أتوق إلى السفر ومن تلقاء ذاتي لا مرغوماً رغبت عنك وهاجرت وها أنا الآن أصارع أمواج هذا اليم بقوة استعدادي للتحفظ من أخطاره ومن الجهة الأخرى أصارع أمواج حبي إليك وحنيني للمعيشة في ربوعك بشدة رغبتي في البراح فهل أنا خؤون .؟ أو مخادع في حبي لك ؟ معاذ الله .. ولكن اسمحي لي بعرض أعذاري لديك واصغي لأفكاري واحكمي عادلاً ..
التفتي معي إلى الجهة الغربية منك إلى ما وراء الأوقيانوس وانظري دخاناً كثيفاً يغيم الجو ويغطي الأفق وما هو إلا دخان المعامل العظيمة التي تشغل ألوفاً من العمال فيقضون نهارهم مكدين مسرورين بأجور تقوم حقيقة بأود معيشتهم وعيالهم فلا يحتاجون إلى مساعدة أخرى ولا يذوقون مرارة ضنك العيش وبلادهم غنية بصنائعهم وثمرة كدهم وأتعابهم فلا تعوز شيئاً ما.

حولي نظرك إلى تلك البنايات الشاهقة التي يناطح رأسها السحاب واعلمي أنها ليست سوى مخازن وحوانيت فخيمة تبدو فيها أنواع المتاجر كموارد غنيمة وكسب وهي تحوي مئات من الكتبة والصناع والأغنياء فترقص طرباً بنجاح مستخدميها وقيميها وتمنح البلاد زهواً وفلاحاً بارتقاء تجارتها وتقدم أفرادها ووفرة ماليتها ووارداتها.

استنشقي عبير تلك الأزهار النابتة في غير أوانها والورود الجميلة والمحصولات الغنية أليست هي ثمر أرض خصيبة حرثها الفلاح النشيط وزرعها بخبرته وعنايته وسقاها بندى جبينه واهتم بها حتى أصبحت الأرض القاحلة تحمل أثماراً ناضجة وشهية.

إنني أشاهد كل هذا فأسر وأطرب وأشتاق إلى السكن في تلك البلاد – وإن كانت بلادي عزيزة – لأنني أراها عارية وجائعة وضعيفة فهي في حاجة إلى مثل ذلك . الحاجة التي يشعر بها كل وطني نظيري فينزح عنها وفي نفسه إليها أشواق وأمامه آمال لا تتم في بلاده الغنية وصفاً والفقيرة ارتقاءً.

متى حصلت على تلك الأماني يا بلادي فسكانك يرتقون مادياً وعمرانياً لأن بتيسير المعاش تقر العين ومتى نام المرء قرير العين انتعشت روحه وارتقت أخلاقه. متى ألف النشاط نام مشعراً بقيمة الراحة ومتى حصّل أجرة تعادل تعبه وتكفيه مؤونة الضيق نسي آلام يديه ورجليه فمتى نرى كل هذا فيك يا بلادنا؟

ومتى لا نشاهد ولا نصادف في زوايا شوارعك أيدي مبسوطة لطلب الإحسان والصدقة. ترى ومتى لا نرى عشرات وجماعات من المتشردين الذين ألفوا البطالة والكسل وعاشوا بأساليب الخداع والدناءة ولا علة تضطرهم لتلك المعيشة ؟ ومتى لا نسمع صراخ المستغيثين من جور تعديات القوي على الضعيف فاحكمي يا سورية العزيزة بالعدل وانظري العاملَين اللذَين يحاربان نفسي .. محبتي إياك وأمانتي لحسن مستقبلي وراحة معيشتي ..

وإذ ترينني مضطراً للسفر بحكم الحاجة أستودعك الآن بنظرات حنو تاركاً فيك زفرات المودع الأمين مؤكداً لك أنني مخلص وإن بعدت عنك لا أنسى ما لك عليَّ من الواجب ولمواطنيّ إذ إن الواجب مقدس في عيني أطالب به وأنا قوي أكثر منه وأنا ضعيف. أودعك على أمل الرجوع إليك فأراك منتعشة بحياة جديدة وقد سطعت فيك شموس النهضة الحقيقية وأثمرت غروس الإخاء والمساواة والحرية. وعسى أن أراك عند عودتي مقدرة رجال الفضل من أبنائك متعلمة كيف تكافئين المحسن وكيف تنشطين الضعيف ..
الوداع .. أرى الباخرة تسير بأكثر سرعة فكأنَّ نيران أشواقي المضطربة وبخار زفراتي ( حمسا ) دفعها وجدَّدا فيها قوةً للمسير فيا لله من هول الوداع ..

أتركك على أمل اللقاء القريب السعيد وأعدك بالعود إلى الحديث معك والتطمين من وراء البحار مخبراً إياك بما أشاهد هنالك مما يجدر ذكره وما نحن في حاجة إلى نظيره.

( سلام في الوداع وفي اللقاء )

كانون الثاني 1910

سلوى سلامة

عن الكاتب

جريدة حمص

جريدة حمص أول صحيفة صدرت في مدينة حمص – سوريا عام /1909/ عن مطرانية الروم الأرثوذكس لتكون لسان حال المدينة.

اترك تعليقاً