من ذاكرة الجريدة منوعات

رسالة إلى السرطان.. باسم الأمل

رسالة الى السرطان

غصة وبعد..

إلى من جعلني أعشق الحياة وكأنها بضع ثوانٍ وأعشق الموت وكأنه الأمل الوحيد لي للخلاص منه (إلى السرطان):

بعد هذا اليوم لن أكتبَ إلا عنكَ وعني، ولن أكتبَ إلا لكَ أيها العاشق المتمكن.. بعد هذا اليوم أنتَ وحدكَ سيدُ الكلمات في أوراقي الحزينة، فبكَ أحلمُ وأنتَ قاتلي.. وفي اليقظة لي فيكَ بعض السلوى تدخل أجزائي.. تبعثرها، تنتهك حرمة جسدي، تذيبني بصمتٍ وعلى عَجَل، ألتهم منكَ فتات الزمن لأصنعَ لحظة ً جميلة، مذ دخلتَ عالمي وأنا أشعرُ بقيمة الأشياء، صرتُ أرى تفاصيلي عن قرب، أنظرُ إلى مسامات وجهي في مرآة كنتُ قد نسيتُها، أشاطر العرافين قهوتي المحروقة، أصنع من ملابسي المهترئة دُمىً لطفلتي، ومن غبار القمح أصنعُ لها وسادة، ألاحقُ وريقات الشجر الأصفر الذي يشبهني لأتعلَّمَ الهندسة الإلهية وأمجِّدَ خالقي…

بتُّ ألمسُ أصلب الأِشياء برفق، أخافُ عليها من لحظة القرار التي تـُذلني بها، لو تعلم كم أخجلُ بكَ أمام أحلامي وآمالي الغافية على عتبة المجهول! لو تعلم كم أصبح للحياة معنى عندي وأنت تؤرجحني بينها وبين الرحيل! لو تعلم أنني برفقتكَ أعيش القيمة الحقيقية لمعنى وجودي لكنت خجلتُ من وجودكَ فيه! أما تستحي أيها الوقح المتطفـِّل على أرجاء جسدي؟!.. بأي حقٍّ تغتصب عذرية أجزائي، بأي حقٍّ تُسقط جدائلي السوداء، تشتتها هنا وهناك؟!.. بأي حقٍّ تلوِّث محيطاتي النائية لتشقَّ فيها بحيراتٍ للسمك الهائم. أرهقتََني.. وأرهقني تواضعي واستسلامي لكَ.. أرهقتـْني عقاقيرُكَ التي أصبحت رائحتها رفيقة َ ملابسي وفراشي وجسدي.. فأنا أراكَ في كلِّ لحظة أحاول أن أهربَ منكَ فيها، على وجه فنجان القهوة، في الصباح أراك، في رماد سيجارتي، في أسئلة طفلتي، بين أوراقي تقبع كلصٍّ لتسرقَ شفافية كلماتي، أراكَ في صناديقي العتيقة، في غبرة عتبة الدار، في خيوط العنكبوت تحتبس أزمنتي، مخالبك أصبحت تعلق بنعال أحذيتي، أجرُّها مع أذيال فساتيني، تدخل ثقوب أزراري، قل لي: أين المفرُّ منكَ؟وإلى أين أيها العاشق المتسلِّط الذي تسلل عشقه لي إلى بيوت أصحابي، أصبحوا ينسجون من عشقك لي أساطير وروايات يصحبونها معهم أينما حلُّوا، لم يعد أحدٌ منهم يذكر عيد ميلادي، انتزعوا اسمي من لائحة الأحياء، وأسدلوا فوق حاضري ستائر من الجليد ليذيبوا في جليدهم ذكراي ويسقوا به تراب حاضري. يذكِّرونني بين حينٍ وآخر بطرقة باب، تستقبلني نظراتهم بشيء من الشفقة، يترجَّلون عتبة داري وهم يتفوهون بتمتمات تعيد إليَّ أميتي، يسألوني عن كل شيء إلا عنك، ويتناسون أني أراكَ في نظراتهم الملأى بالحذر، في صمتهم المفاجئ عند حضوري، أصبحوا يتجنبون الشراب من كؤوس طالما كانت المفضَّلة لديهم خوفاً من أن تكون بقايا أنفاسي عالقة ً عليها، لماذا؟ وإلى متى سأظلُّ مطأطئة الرأس لنزواتكَ المجنونة؟.. سؤالان أنتَ أضعفُ من أن تجيب عليهما لأنَّكَ المحتلُّ المغتصب وأنا المقاوِمة المعتدَى عليها. وحدي أنا من يحقُّ له صنع القرار والفضل لكَ، نعم الفضلُ لكَ، والشكرُ لك.. فمنذ هذه اللحظة أنتَ الأسيرُ في جسدي، وأنا الحرة فيما علَّمتَني، عذراً أيها المعلِّم.. عذراً يا مَنْ جعلتَني أطرب لدبيب النمل في الضجيج.. عذراً يا من جعلتَني أنحني للتراب أتوسله ليضمني بدفء ليلة العرس.. عذراً يا من جعلتني أنثر في السماء آهاتٍ تفتح صلاة ً وعلى الأرض أزرع دموعاً تنبت رجاءً.. عذراً منكَ فأنتَ لم تعد منذ اليوم سجاني، وأعترفُ أنَّك الأقوى ولكن أضعفُ ما في قوتكَ أني منك أستمدُّ قوتي وأنتَ قاتلي…

دلال زين الدين

عن الكاتب

جريدة حمص

جريدة حمص أول صحيفة صدرت في مدينة حمص – سوريا عام /1909/ عن مطرانية الروم الأرثوذكس لتكون لسان حال المدينة.

2 تعليقات

  • Thank you so much for giving everyone a very superb opportunity to check tips from this web site. It’s usually so beneficial plus packed with fun for me personally and my office friends to visit your web site no less than thrice weekly to study the new things you will have. And lastly, I’m also usually impressed with all the very good thoughts you serve. Selected two points in this article are rather the most efficient I have ever had.

اترك تعليقاً