واقفاً خارج القاعة الكبيرة، منتظراً إعلان اسمي، وكما في مشهد سينمائيّ عند اقتراب لحظةٍ حاسمة، تعود الذكريات المخزّنة كومضات حيّة إلى أن تستقرّ على واحدة مناسبة يختارها العقل الباطن بدقّة مبهمة فتطيل البقاء، وإذ هي ذكرى موثّقة بشكل نادر كأقرب ما نملك لصورة عائليّة يغيب عنها وجه أمّي، التي أنساها فرحها بإمكانيّة التقاط هذه الصورة من أن تظهر فيها، فكنّا أنا وأخوتي و”السيد الوالد” كما أدعوه بحكم السلطة والسطوة المفروضة ظاهريّاً وفعليّاً، ولا أذكر يوماً أن دعوته والدي! لأن ياء المتكلّم وما فيها من ملكيّة وخصوصيّة كانت خارج صلاحياتي، لشعوري بأنّ سيادته كان للناس ولعمله كما هو لنا.
وعلى مثال القول “لكلّ امرئٍ من اسمهِ نصيب”، أقول هنا: لكلّ امرئٍ من مهنتهِ لعنة.
“الأبُّ الضابط”!
مدعاةُ الفخر، عن بُعد.
أمّا عن قُرب فهو ليس أكثر من غريب نعيش في بيته.
نسأل عنه للتأكُّد من غيابه.
نستعرض مآثره كما لو أنّها أخبار سمعناها عَرَضاً دون أدنى شعور بالحَمِيّة التي تُحدِثُ دويّاً في القلب عند روايتنا للملاحم التي تخصُّنا.
فهو دوماً “هو”
ضمير المفرد الغائب.
يعامل كبطلٍ خارق من القصص المصوَّرة وقد تستخدمه أمي للتهديد والوعيد وتفريغ شحنات التنكيد!
أو كعلّاقة صلبة تُعلَّق عليها مختلف المشاكل والخيبات، وحقيقة عدم توافر خيار البوح أو المواجهة بيننا وبينه، رسّخت هذه الحال بشكل حتميّ.
كنت أميل للمبالغات الشديدة في صراعي المستمرّ وتصوّراتي عن “السيد الوالد”، خاصّة في سنّ المراهقة وما يبثّه في النفس من القيم المثاليّة مع الرفض التامّ لكلّ ما يمثّله الأهل وينصحون به، حينها قرّرت ألّا أشابه “السيد الوالد” بكليته.
ففي القصص المكتوبة أو المرويّة، الوالد يلعب مع أولاده، يروي لهم قصّة، ويودعهم في أسِرّتهم.
إذاً ما “هو” الذي عندنا؟
وأعود فأسأل، ترى هل يشعر “السيد الضابط”؟
هل يتألّم ويحزن؟
هل يضحك؟
هل يشتاق؟
هل يدرك وجودنا؟
نحن النيام دوماً حين وصوله متأخرا للمنزل.
والتناقض داخلي يدافع ويتّهم، يحبّ ويكره، يفاخر ويذمّ!
“قد لا تكون المشكلة في شخص السيّد الوالد”! هذا ما اعتدت قوله حينما كنت أميل للتبرير المنطقيّ في لحظات صفاء عاطفيّ. فلكلّ شيء ثمن، وكنت من الوعي بمرحلة تمكّنني من إدراك الأشياء وأثمانها، إذ إنَّ خيار الأبّ الفاشل عمليّاً والناجح أُسَرِيّاً كان سيكون مكلفاً أيضاً بالتوازي إن لم يكن بالتفوّق على الخيار الحاليّ.
وهذه الخيارات حرّة كانت أو إجبارية، يرافقها تأقلم فطري من جهتنا كما لو أنّنا ولدنا به، مع قمع ذاتيّ لا إراديّ لكلّ جديد وتجديد.
أمّا من جهة “التوقّعات العظيمة” فكانت صلابة هذا الضابط هي قوّتي ومستندي ولم أكن لأقبل بميلانها.
لم يكن حاضراً في التفاصيل، بالمقابل “هو” اليقين الثابت أبداً، فكنت كمن آمن ولم يرَ.
ولطالما كانت الصُّوَر “المُبَرْوَزَة” للسيد الوالد هي التحَف الأحبّ لقلب أمي مع أنها كالنُّسَخ، لولا حقيقة تزايد عدد الشارات والأوسمة بشكل يتناسب طرداً مع تجعّد بشرة الوجه وزيادة عمق خطوط العمر الذي مضى بمنأى عنّا.
كان الصراع الأزليّ في داخلي يتصاعد بشكل محتدم، وإشارات استفهام تتراكم وتتراكم منتظرة.
حتى أتت الإجابة على شكل مظروف أبيض اللون يحمل في داخله خبر قبولي كمتطوّع في كليّة الشرطة.
وها أنا اليوم في قاعة الاحتفالات الرسميّة لأتقلّد وسام أمية بعد مضي ثلاث سنوات كاملة على حملي لوسام الاستحقاق من الدرجة الأولى وذلك بحضور أمي التي بدأت بتوسيع مجموعتها من التحف المحبّبة بأن علّقت صوري باللباس الرسميّ تحت صور “السيد الوالد”.
ويظهر أن أمجادنا الموثّقة بالصور تربح الرّهان من جديد، وتكون أشدّ إغراءً من الأمجاد الموثّقة في القلوب.
وبطريقة عجيبة ومكرّرة لا تُصَدَّق لشدّة واقعيّتها، ومستسلماً لراحة الروتين وطمأنينة التكرار، اخترت بشكل تلقائيّ اللعنة التي أعرفها عوضاً عن الخوض في فخاخ لعنةٍ أخرى مجهولة الدرب والهوية.
م. ميشلين وهبي
اترك تعليقاً