تاريخ من ذاكرة الجريدة

والروم الأرثوذكس أيضاً كانوا يستخدمون السريانية في كنائسهم وطقوسهم

صورة السيدة العذراء المنشورة مع هذا المقال تأتينا من جدران كنيسة مار سركيس وباخوس للروم الأرثوذكس في بلدة قارة الواقعة إلى جنوب حمص بمسافة 55 كيلومتراً على طريق عام حمص-دمشق في منطقة القلمون السورية. وهي واحدة فقط من عدة تصاوير جدارية أثرية نفيسة أخرى ما زالت موجودة على الجدار الشمالي للكنيسة إياها. وهذه الرسوم الجدارية محفوظة بشكل لا بأس به لولا بعض التشويهات “المقصودة” التي أزالت وجوه شخوصها في أدوار يصعب علينا تحديدها بدقة. وأرجح الظن أن هذه الجداريات أو “الفريسكات” تعود إلى زمنٍ ما يقع بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر.

ومن اللافت أن الرسوم منفذة وفقاً للمفهوم السوري في الإيقونوغرافيا أو “فن رسم الأيقونة” على الرغم من احتواء إيقونسطاس الكنيسة أو “حامل أيقوناتها” وخزائنها على العديد من الأيقونات المصورة معظمها طبقاً لما يُعرَف عادة بالتقليد البيزنطي في فن رسم الأيقونة Byzantine Iconography. وهي، أي هذه الجداريات، تحمل تعاريف بالشخوص التي تمثلها باللغتين: السريانية الآرامية الوطنية واليونانية، ولهذا الأمر دلالته كما سنرى أدناه.

   ويجب أن لا تثير دهشتنا أو استغرابنا حقيقة استخدام اللغة السريانية الوطنية في كنيسة للروم الأرثوذكس على هذه الجداريات التي تنتمي إلى القلمون السوري من الوجهة الجغرافية وإلى المدرسة السورية في الإيقونوغرافيا.

بينما هي تحمل في الوقت ذاته ما يثبت أنها رومية الطقس، أي “بيزنطية” بدليل إخراجات وطريقة توضُّع التعاريف المختصرة باليونانية في أمكنتها المألوفة، بل والنظامية أيضاً، طبقاً للأعراف السائدة والمعروفة جيداً في الأيقونة “البيزنطية”، الأمر الذي يدمغ هذه الجداريات، والكنيسة الحاوية عليها، بالخاتم “الرومي” بدون أدنى ريب.

   وبالعودة إلى موضوع الجدارية المنشورة صورتها هنا، نشاهد إلى أعلى الكتف الأيمن لتصوير السيدة العذراء عبارة MP اليونانية، وهي اختصار لكلمة Μάτερ (= Mater) أي “والدة” أو “أم”، بينما نجد فوق كتفها الأيسر عبارةΘΥ Θεου (=Theou) أي “الله”، وهي، أي هذه الأحرف، مصورة بالطريقة التقليدية الخاصة بفن رسم الأيقونة “الرومية”. كما نشاهد أيضاً فوق رأس تمثيل الطفل يسوع، الذي تحتضنه العذراء، وإلى يساره عبارة XC  ΙС والمقصود بها اختصار لعبارة Χριστός Ίησους (=Iesous Christos) أي “يسوع المسيح” باليونانية.

أما العبارة السريانية المكتوبة بخط السرطو إلى يسار كتف العذراء مباشرة فهي مرة مريم يلدة اله ا: (=مرت مريم يلدت ألوهو) أي “السيدة مريم والدة الإله”

   ونلاحظ أن هذه الطريقة في التعاريف باللغتين السريانية واليونانية معممة على بقية الرسوم الجدارية في الكنيسة نفسها، وهي تصور القديسين ثيوذوروس وسيرجيوس (=سركيس) ويوحنا المعمدان السابق الرسل.

   كل ما تقدم يدفعنا إلى استنتاج ما يلي:

  1. إن الكنيسة هي، تاريخياً، من كنائس الروم الأرثوذكس بما لا يرقى إليه الشك.
  2. إن ظهور الكتابات التعريفية بالسريانية تشير إلى أن هذه اللغة القومية الوطنية الأصيلة كانت مستخدمة في الطقس الكنسي للروم الأرثوذكس في مناطق القلمون السوري، وإلا فما معنى وجودها مكتوبة على الجداريات إذا افترضنا العكس؟
  3. وإذا علمنا أن الزمن المرجح لتصوير هذه الجداريات هو القرنان الثاني والثالث عشر الميلاديان، فهذا يدفعنا إلى الاستنتاج بأن اللغة السريانية كانت مستخدمة كلغة طقسية في كنائس الروم الأرثوذكس إلى جانب اللغة اليونانية بالطبع. ونشير، بالمناسبة، إلى أن هناك العديد من الدراسات التي تؤكد أن السريانية بقيت مستخدمة في كنائس الروم الأرثوذكس تلك حتى زمن متأخر في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

عن الكاتب

ملاتيوس جغنون

اترك تعليقاً