أدب وفكر

فلسفة الوحدة في التنوع (2)

فلسفة الوحدة في التنوع (2)

في هذه الحلقة الثانية من بحثه، يتناول د. صعب موضوع الوحدة، فيتوقف عند معنيين رئيسيين. ثم ينتقل إلى موضوع الدين والدولة.

في الحلقة السابقة، وصف الدكتور أديب صعب فلسفته بعبارة “الوحدة في التنوع” أو “الوحدة في التعدد”. وبعد عرضه أنواع التعدد، مثل التعدد الاجتماعي والتربوي واللغوي والعرقي والديني، توصل إلى معنى جديد للتعددية، يبقى معه كل مجتمع تعددياً وإن تلاقى أفراده على الدين أو العرق، هو المعنى العددي. هذا هو المعنى الوحيد، في نظر الكاتب، الذي يصون القيم الاجتماعية كالحرية والعدالة.

مع الدكتور هشام شرابي في جامعة البلمند – أواسط التسعينات

في هذه الحلقة الثانية من بحثه، يتناول د. صعب موضوع الوحدة، فيتوقف عند معنيين رئيسيين. ثم ينتقل إلى موضوع الدين والدولة.

نَمَطان للوحدة

يمكن أن تتحقق الوحدة الاجتماعية، إذاً، وفق نمطين رئيسيَّين، يقوم أحدهما على اقتطاع عنصر معين من عناصر التعددية الاجتماعية وبناء قاعدة الحكم عليه. وغالباً من يحصل هذا الاقتطاع على أساس أغلبية ما: عرقية أو دينية أو مذهبية أو سياسية. لكن إحدى الأقليات قد تتولى السلطة أحياناً وتَفرض إرادتها على الأكثرية. ولئن كان هذا النوع من التوحيد، خصوصاً ذاك الذي تبادر إليه إحدى تعدديات المجتمع بحكم تفوّقها الرقمي عرقياً أو دينياً أو سياسياً، أبسط الأنواع وأكثرها مباشَرةً، إلا أنه ليس أفضل أنواع التوحيد على الاطلاق. فهو يبقى بعيداً عن هدف تحقيق العدالة، مهما حاولت الفئة “الغالبة” وضع الفئات الأُخرى “في ذمّتها” وادّعت “التسامح” في معاملتها. فالتسامح، في مفهوم كهذا، ناقص جداً بل مشوَّه، إذ يرتكز إلى أن صاحب القوة أو الغلبة أو السلطة وحده في الحق أو في الحق الكامل، وأنه يتساهل مع سواه ممّن هم في بعض الحق أو حتى في انحراف عنه، لأن مبادئه، الدينية أو سواها، تملي عليه الشهامةَ تجاه الآخرين أو أخْذَهم بمبدأ “العفو عند المقدرة”(7).
النمط الآخر من التوحيد هو ذاك الذي تتحقق فيه الوحدة الاجتماعية لا على حساب التنوع أو عبر طمس التنوع أو إضعافه، بل وسط التنوع أو ضمن التنوع. هذا يَستبعد أن تكون أداة التوحيد واحداً من عناصر التنوع. وظيفة الدولة أن تستوعب تعددية المجتمع من غير أن تطمسها أو تُبرِز فئة، مهما بلغت رقمياً، على سواها. هذا النمط التوحيدي يقضي بأن تكون الدولة آلة إدارية لا داعية عقيدة، دينية أو قومية أو سياسية أو غير ذلك.

كتابه الأول في خماسية فلسفة الدين، (الدين والمجتمع) (1983)، في طبعتين

هذا النمط من الوحدة الاجتماعية أو من النظام السياسي الذي نزكّيه، إذاً، وهو الوحدة في التنوع، يهدف إلى بث النظام والانسجام في الجسم الاجتماعي. وفي غيابه تتنافر تعدديات المجتمع وتتصارع، ويغيب السلام والأمن الاجتماعيان لتَبرز الفوضى والحروب الأهلية، الدينية والعرقية وسواها. ولعل من الصعوبة القبض على هذا النوع من الوحدة ومحاولة تحديده وتسميته. فهو نوع من وحدة الجوهر أو الروح وسط تنوع المظاهر واختلاف الأسماء. وعندما حاول الفيلسوف البريطاني جون لوك تحديد هذا العنصر، قال إن “الجوهر شيء غامض يَحمل الأعراض”(8). ولئن آثر كبير التجريبيين البريطانيين ديفيد هيوم الاكتفاء بالأعراض، أي التعددية المطلقة، والاستغناء عن الجوهر الذي يوحّدها وعن غموضه، خصوصاً لأن هذا الجوهر لا يتكشف للحواس، وهي السبيل الوحيد إلى المعرفة، فقد انبرى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ليعترف بفضل هيوم عليه في إيقاظه من “سُباته العقائدي” لجهة عدم القدرة على البرهان التجريبي الحسّي عن حقائق من نوع الجوهر وقانون السببية والانتظام الطبيعي، لكنْ ليشدّد في الوقت نفسه على استحالة قيام أي علم وحتى أي سلوك عملي بعيداً عن هذه المفاهيم التي لا بد من افتراضها أو فرضها، باسم البديهة العقلية، على الوجود.

نكون قد رأَينا أن أي تعدد بدون وحدة هو اختلال في طبيعة الأشياء، وأن أي وحدة بدون تعدد هي هكذا أيضاً. كما رأَينا أن الوحدة التي تحصل على حساب التعدد هي وحدة تعسفية تجافي، على صعيد الاجتماع البشري، المبادئ والقيم الأساسية لهذا الاجتماع، وهي الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الانسان. أما الوحدة المنشودة فهي الوحدة في التعدد. وهذا أشبه بوحدة الجوهر أو الروح أو المعنى وسط تعدد المظاهر والأسماء. وإذا كان التوصل إلى هذا النوع من الوحدة أشبه بتحقيق “المدينة الفاضلة” أو الدولة المثالية، فلا شك أن رقيّ الأنظمة السياسية يقاس باقترابها من هذا المثال. في هذا الجزء من العالم، لا بد من أن تدور وحدة الجوهر التي نتكلم عنها على مفهوم “العروبة”، وهو مفهوم يحتاج دائماً إلى إيضاح، خصوصاً وسط انحسار تشهده دعوات العروبة حالياً حول العالم العربي باسم تجمعات مذهبية أو عرقية أو سواها. من هنا أرى لزاماً على المفكرين الاجتماعيين والسياسيين وعلى المثقفين عموماً العمل من أجل إعادة تحديد مفهوم العروبة، وهو وحده الكفيل بإقامة الوحدة السليمة وسط التنوع في العالم العربي وتأسيس كيان عربي قوي يتخذ شكلاً أو آخر من أشكال الاتحاد الاقتصادي – الثقافي – السياسي. والمعنى المنشود للعروبة يتجاوز العرقية، بحيث يكون أكراد العراق وسورية عرباً لا أقل من سواهم، وأمازيغ المغرب عرباً لا أقل من سواهم، والسريان والأرمن في بلاد الشام عرباً لا أقل من سواهم، ويهود فلسطين عرباً لا أقل من سواهم. كما يتجاوز الطائفية ليكون السنّة والشيعة والمسيحيون بمختلف مذاهبهم وكل الفئات الدينية فوق الأرض العربية عرباً بالتساوي.

محاضراً في الجامعة التونسية – آذار/مارس 2017

الدين والدولة

هذا يعني أن نظرتنا القائلة بالوحدة في التعدد على كل الصعد تدعو أيضاً إلى الفصل بين الدين والدولة أو الدين والسياسة. إن المسيحية والاسلام، وكذلك اليهودية والهندوسية والبوذية والزردشتية والكونفوشيوسية وكل دين بلا استثناء، هي، بمعنى عميق جداً، “دين ودولة” في آنٍ معاً. فالدين نظرة شاملة إلى الوجود مبنية على الايمان، نظرة تتناول كل شيء في حياة الانسان، بما في ذلك المجتمع والسياسة والدولة، ولا تُبقي شيئاً خارجاً. وإذا كانت المسيحية قد أعلنت تمسكها بالسماويات في قولها “ليس لنا هنا مدينةٌ باقية”(9)، فالاسلام يؤكد هذا الاعلان عبر قوله بأن “الآخرة خيرٌ وأبقى”(10). وهذا مصداقٌ لقول المسيح: “مملكتي ليست من هذا العالم”(11)، الذي يفصله بعضهم عن سياقه ويدعمونه بقول آخر للمسيح: “أَعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”(12)، ليستنتجوا خطأً أن المسيحية غير معنية بهذا العالم. والأحرى أن المسيحية والاسلام وكل الأديان “ليست من هذا العالم”، بل هي من السماء أو من الله، لكنها وُجدت لهذا العالم أو من أجله، لكي تحوّله بل تعيده، كما تستوجب النظرة الايمانية، إلى ملكوت أو ملْك لله، عبر كل الوسائل الممكنة، بما فيها سياسة المجتمع وإدارة شؤون الدولة.

لكن إذا كانت المسيحية ديناً ودولة والاسلام ديناً ودولة واليهودية ديناً ودولة والهندوسية ديناً ودولة والبوذية ديناً ودولة وكل دين، بمعنى، ديناً ودولة، فلأيّ دين تحقّ سلطة الحكم في مجتمع ما(13)؟ إنّ الحكم الديني غير مستحَبّ، حتى وإن انتمى المواطنون إلى مذهب واحد، وذلك لتعدُّد التفسيرات والاجتهادات والمذاهب الفقهية، ولأن الايمان لا يُفرَض بقوانين، ولأن الحكم باسم الله يتولّاه بشَر لهم حدودهم وأهواؤهم ومصالحهم. وفي كل مكان عرَف الحكم الديني، كائناً ما يكون اسم الدين، تزخر صفحات التاريخ بأخبار حكّام رَوَّعوا شعوبهم وشعوباً أُخرى وقمعوها واضطهدوها باسم الدين وتفسيراته القويمة، وبأخبار حركات “تصحيحية” انقلب فيها حاكمٌ على آخر انقلاباً دموياً وحصلت كلها تحت شعار “الخط القويم”. وأتذكر هنا قولاً للفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ: “حيثما أُقيمَ الحق على السلطة الإلهية، يمكن تبرير أشد الأُمور سوءاً وظلماً”(14). وإذا كان الحكم باسم الله ظالماً للبشر، فهو بهذا يهزم الدين وقضيته، كما يَظلم اللهَ لأنه يحمّله نقائص الحكام وموبقاتهم.

هنا أعود إلى نظرتي القائلة بأن كل مجتمع تحت الشمس تعددي، شاء أم أبى، بالمعنى العددي، أي معنى تكونه من أفراد. لكل من هؤلاء الأفراد – وإن انتموا إسمياً إلى دين واحد أو مذهب واحد – موقفه من الايمان وفهمه وتفسيره للنصوص الدينية ونظرته إلى السياسة ونظام الحكم والعدالة الاجتماعية. وهدف الدولة إتاحة أفضل الظروف أمام جميع الأفراد الذين يتكون منهم النسيج الاجتماعي لكي يحققوا ذواتهم ويتعايشوا بسعادة وطمأنينة وسلام. في سعي الأفراد والشعوب خلال التاريخ نحو تحقيق هذه المطالب، تبيَّن أن أفضل الأنظمة الاجتماعية أو السياسية الكفيلة بتحقيقها هي تلك القائمة على قيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الانسان. وهذا عينُ ما يدعو إليه لا دينٌ بعَينه بل كل الأديان، التي تتلاقى على أن أعلى ما في الانسان كرامته، وهي آتية من كونه مخلوقاً على صورة الله ومثاله كما في التعبير المسيحي، وخليفة الله في الأرض كما في التعبير الاسلامي. والدولة التي تنتهج هذه القيم من دون إعلاء دين على دين آخر أو مذهب على مذهب آخر أو موقف إيماني على موقف إيماني آخر أو تفسير على تفسير آخر هي ما أُسمّيه “الدولة الدينية الفعلية”. وهذه أقرب إلى جوهر الدين مما أُسمّيه “الدولة الدينية الاسمية”، أي تلك التي تكتفي بالتفاصيل في حين تنتهك مبادئ الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الانسان حفاظاً على أسماء ومظاهر مفرغة من محتواها.

إذا استطاع نظام الحكم الانسجام مع جوهر الدين بعيداً عن التحجر ضمن شكليات نتجت منها ويلات كثيرة خلال التاريخ وبالتالي خانت قضية الدين، فهو إنما يساهم في تحقيق أهداف الدين ضمن نظرة سياسية يمكن وصفُها بـ “العلمانية الليّنة” أو “المعتدلة”، تمييزاً لها عن “العلمانية القاسية” أو “المتطرفة” التي لا تكتفي بفصل الدين عن الدولة، بل تذهب أبعد كثيراً إلى حد محاربته في المجتمع ومحاولة إقصائه كما جرى في بعض أنظمة الحكم الشيوعي. ما يحتاج إليه أي بلد لتحقيق الوحدة في التعدد على الصعيد الاجتماعي هو دولة مركزية قوية تجسِّد مفاهيم الوطن والمواطَنة. الايمان الديني لا يشكل قضية على هذا الصعيد. وهذا يفسر قول الإنجيل بإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وفي القرآن آياتٌ عدّة تشير إلى هذا الأمر، منها: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”(15)، و”لا إكراه في الدين”(16). وفي إحداها يخاطب اللهُ تعالى نبيَّه ورسولَه محمّداً بقوله: “أفأنتَ تُكرِهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين؟”(17). المطلوب، لحسْن سَير الجسم الاجتماعي، قوانين تضمن القيم الاجتماعية وتردع تعدّيات الناس بعضهم على بعض، بصرف النظر تماماً عن تنوعات إيمانهم وتجاربهم الدينية. فما يعني المواطنَ من مواطنٍ آخر ليس دينه وإيمانه، بل احترام حريته وكرامته وعدم التعدي عليه. لكن إذا كان الايمان الديني يعزز احترام القوانين المدنية والسلم الاجتماعي بجَعلِه المؤمن مواطناً صالحاً يحترم القوانين ويحفظ الوعود والعهود أكثر من سواه، فتربية هذا النوع من الناس يقع ضمن مسؤولية المؤمنين ورُعاتهم.

اقرأ أيضاً: فلسفة الوحدة في التنوُّع (1)

هوامش

  1. أديب صعب، وحدة في التنوع، ص 27-33. أيضاً، أديب صعب، “فلسفة للحوار الديني”، صحيفة الحياة، السبت 3 تموز/يوليو 2004.
  2. للاطّلاع على آراء لوك وهيوم وكانط في هذا المجال، انظر الفصول 2 و4 و8 من: أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين.
  3. رسالة بولس إلى العبرانيين 13: 14 (الكتاب المقدس، العهد الجديد).
  4. سورة الأعلى (87): 16-17. قارِن مع: سورة الأعراف (7): 169، سورة يوسف (12): 57، سورة الرعد (13): 26، سورة النحل (16): 30.
  5. يوحنّا 18: 36.
  6. متّى 22: 21، مرقس 22: 17، لوقا 20: 25.
  7. أديب صعب، وحدة في التنوع، الفصل الرابع: “الدين والدولة”، ص 41-48، والفصل الخامس: “الدولة الدينية الفعلية”، ص 49-54.
  8. Ludwig Feuerbach, The Essence of Christianity, New York: Harper, 1957, p. 274.
  9. سورة الكهف (18): 29.
  10. سورة البقرة (2): 256.
  11. سورة يونس (10): 99.

عن الكاتب

أديب صعب

د. أديب صعب فيلسوف وشاعر وأكاديمي من لبنان. له خمسة كتب في فلسفة الدين: الدين والمجتمع (1983)، "الأديان الحية" (1993)، "المقدمة في فلسفة الدين" (1994)، "وحدة في التنوع" (2003)، "دراسات نقدية في فلسفة الدين" (2015)، صدرت في عدة طبعات، إضافةً إلى كتب في النقد الثقافي، منها "هموم حضارية" (2006)، مع عدد من المجموعات الشعرية، آخرها "حيث ينبع الكلام" (2019). أُستاذ الفلسفة طوال عقود، مع التركيز على تاريخ الأديان وفلسفة الدين، في جامعة البلمند شمال لبنان. رأس تحرير مجلة "الأزمنة" طوال فترة صدورها في النصف الثاني من الثمانينات، وقد ساهم فيها كبار المثقفين العرب. شارك في مؤتمرات علمية كثيرة، ونشر دراسات، في كتب محرَّرة ومجلات مختصة، في الفلسفة والآداب.

اترك تعليقاً