أدب وفكر

أحلام.. (2)

وهو لا بد أنه حاول فعل ذلك مرارا وتكرارا، قبل زيارتي له، وكان جسده أيضا يشارك في صناعة الكلمات، وهو يكمل قصته “الخرافية”: “في ذلك اليوم أحضروا سيارة الإسعاف، بعد أنباء عن قذيفة أصابت أحد المنازل، وتردد خبر إصابة سيدة وابنيها في المكان.

قالوا لي لقد توفيت الصبية، ويبدو أن أحد طفليها أيضا قد قضى، ونحاول إنعاش الآخر وهو رضيع.

قفزت كعادتي إلى السيارة التي توقفت قبالة النقطة التي عملت بها مع منظمة الصليب الأحمر، كمسؤول عن التواصل والتنسيق لنقل المصابين إلى هناك، إلى الضفة الأخرى من الوطن، حيث تسيطر الدولة، ويعالج الناس بالمجان، حتى عندما يأتون من حصون المسلحين.. بالفعل كان الوضع غير مفهوم، ولكنه بدا منصفا لي على أقل تقدير.. ويشفي قليلا مما في صدري من ضيق، عندما أرى الشباب المسلحين يشتمون الدولة، ثم يرسلون أبناءهم لتناول اللقاح أو تقديم الامتحانات أو حتى للعلاج وغيره..

صعدت للسيارة وآخر ما كان في البال، أن أرى وجهها الملائكي الجميل، وقد فقد قسماته ومعانيه..التي كنت أحبها وأتأمل فيها يوميا، حتى عندما كانت طفلة تنام في حجري، فترة القيلولة بعد الظهر، فتحرمني من قيلولتي، وتمنحني بديلا عنها كل العالم.. إنها سوسن ابنتي..

ومحمد بجوارها، كما بدا من حجمه، فشقيقه أحمد كان بشهوره التسعة أصغر منه بالحجم كثيرا.
في الحرب نحن نتعرف على فلذات أكبادنا من خلال أحجامهم أو ملابسهم، أو بعض العلامات الفارقة المرسومة كالوحمات في أجسادهم هنا وهناك..

لم تعد اللحظات في ذلك الوقت، ولا الأحاسيس تروى أو تفهم، أو حتى تتيح لي مجالا لتسجيلها على الدقة في دفتر ذاكرتي عن عمري الذي بدأ ينقسم مثل ظهري ذاك المساء.. إذ لا أستطيع أن أجزم لكم أن ما أرويه هو ما حدث بالفعل..

حملتها بين يدي، بعد انقطاع طويل عن حملها، ولكن للمرة الأخيرة.. قلت للناس المتجمعين حولي، اتركوني أنا سأتدبر أمري.. ثم أخذتها ونظفتها وألبستها ثوبا يليق بجمالها، ودفنتها بيديّ.. هناك خلف المنزل، ولا أذكر شيئا عن كيفية وصول جثمان الطفل الصغير إلى جانبها، إلا أنني أذكر تماما هنا مشهدا ما يزال يعن في خاطري مثل الرؤية، وكأنني كنت أنظر إلى نفسي من فوق، من سطح منزلنا، وأنا أرمي حبات التراب على جسديهما، براحتيَّ، وليس بالمعول أو بأية أداة أخرى.. كنت أقوم بذلك بأسلوب الصلاة.. فأنحني في كل مرة، حتى غيب تراب حديقتي وجه سوسن ومحمد، ولم يعد هناك المزيد.

الغريب بالأمر أم الحياة تستمر.. كان أحمد بحاجة لي، ولمن بقي من عائلتي، لنكون له كل شيء، وقد كنا كذلك بالفعل.. ربيناه يوما بيوم، وساعة بساعة، وحرفا بحرف.. فالتعليم في ريفنا المحافظ إذا لم يبدأ في المنزل، كان لا يؤتي ثماره بعد ذلك، وهذه كانت صفة بعض القرى، والتي ميزت هذه القرية عن تلك. فتجد عددا كبيرا من المتعلمين هنا، وعددا يسيرا منهم هناك، برغم انتشار المدارس في كل مكان.

بلغ أحمد عامه السادس وهو في كنفي، وكنت أرسم له مخططا جميلا في الذاكرة وقتها، ليكون مهندسا ويساهم في إعادة الإعمار.. وكنت أحيانا أضحك من نفسي، وأنا أقول لن يلحق بإعادة الإعمار، فسوف تنتهي قبل أن يتخرج.

في ذاك اليوم كان أحمد يلعب في الحديقة، منتشيا كعادته، وأصواته تملأ المكان، خاصة عندما يلعب لعبة الحرب، ويصرخ ‘طاخ طاخ’.. هكذا وببساطة جاءت قذيفتنا الأخيرة قبالة المنزل، وقطفت أحمد من على بابنا المتعب، وصمت هو والمكان بعدها..”

كنت أنظر في وجه أبي محمود، وكأني فقدت النطق.. فكيف يمكنك أن تعلق على رواية كهذه، وأنت تسمعها من صاحبها، وفي لقائك الأول معه.. وأنت تظن أنك عرفت الحرب وفهمتها، بينما هي تسخر منك مجددا، وتقول إنه لا يمكن حصرها على الإطلاق.

مع أولى نسمات المساء غادرت منزل أبي محمود، وبينما كانت الشمس تفقد ضوءها وهي تقترب من فراشها لتنام.. حيث تحلو الألوان وتنضج وكأنها ولدت للتو.. ركبت سيارتي وبدأت أسير ببطء في شوارع القرية، مبتعدا عن وسطها شيئا فشيئا، فيما بدت الأزهار الربيعية الصفراء أكثر وضوحا من حولي على جنبات الطريق، كأنها كانت ترفع أعناقها، وتزهو بألوانها قبالتي على التحديد، وتحاول إخباري بشيء ما.. فهي لم تكن كذلك في طريق القدوم قبل ساعتين..!

كانت آخر كلمات أبي محمود وهو يودعني، تعود وتمر بذهني بشكل رتيب وهادئ ومكرر..

“أنا قوي يا عمي.. لم يستطع أي شيء أن يكسرني، وسأبقى كذلك”.

مستوحاة عن أحداث حقيقية

يزيد جرحوس

عن الكاتب

جريدة حمص

جريدة حمص أول صحيفة صدرت في مدينة حمص – سوريا عام /1909/ عن مطرانية الروم الأرثوذكس لتكون لسان حال المدينة.

اترك تعليقاً