أدب وفكر

أحلام.. (1)

على باب الكنيسة المهدمة قليل من آثار المعارك التي مرت من هنا بسرعة كانت كافية لتهجير الناس لسنوات طوال، وقفتُ لبرهة أتأمل شكل المكان وتوزع الأشخاص، في مناسبة كهذه، وعقب خلخلة البنى والمفاهيم والأدوار، في هذه القرية الوادعة، تماما كما في بقية جغرافيا الجسد السوري الذي أنهكته الحرب.

كان المكان الذي أفضله شاغرا، هناك في الخلف، حيث يقل عدد الناس في تناثر غير منتظم، تزداد وتيرته كلما عدنا صفا من الكراسي الخشبية الجميلة غير المريحة، والتي ربما أخذت هذه المواصفات المعيارية، من فلسفة الرهبنة والتقشف خلال قرون من عمر المسيحية، ابنة هذا الشرق الجميل والمتعدد
-في الوقت نفسه- بالأديان التي قدمها للعالم، أو لنقل على وجه الدقة بأبنائه الذين قدموا تلك الأديان منه وإلى العالم، فكانت أوسع وأكبر شكلٍ من أشكال العولمة ربما، وقبل أن تُدرَّس تلك الأخيرة، أو يَعرِف عنها أحد شيئا.

هناك من الخلف، كان تلمس حالة الحزن العميق والقهر المتفجر، لدى عائلة المتوفى، ممكنا من خلال الهمهمات المكتومة لدموع وغصات بلغت الذروة في جسد وروح حامليها، فلم يعد بإمكانهم كبتها أكثر.

نحن هنا مصابون جماعيا بحمى الكبت الشعوري، على حساب الصحة والتأقلم والتوازن النفسي لاحقا. ليس لشيء ربما، إلا لأننا نعشق القوة والندية، ونقدر عاليا فلسفة المكابرة حرصا على الأحبة من المحيطين، فهؤلاء تحرقهم دموعنا كما تؤلمنا نحن دموعهم بالمقابل الإنساني الجميل.. إننا نفكر بالآن كثيرا، ونهمل الغد.

كانت شادية متوسطة لعائلتها، في الموقع وفي الألم، منكسرة في تلك اللحظات كما بدت من خلال حركات رأسها وكتفيها، وهي تنوس بين اللوعة والمكابرة. فالخسارات المضاعفة فينا، تعمل عملا عميق التأثير في بنيتنا النفسية، ولكنها عند البعض المميز القادر، تحصن مستويات الوعي، بطريقة أو بأخرى.

خسارة الأخ الذي قتله المسلحون منذ سبعة أعوام لم تكن الأكبر على ما يبدو، مقابل الاستسلام الطوعي أمام غياب الوالد المخطوف، بعد السنوات السبع تلك نفسها.. حيث قررت العائلة إجراء مراسم الدفن للغائب، في عرس للحزن والغياب، لم تكن تشفي جراحه حتى الصلاة.

بعد انتهاء مراسم الجنازة، وفي لحظات مكثفة للسعي عن الخاتمة المفقودة مجددا، انتابنا جميعا ذلك الحرج والإرباك والضياع، بينما بدأ المزيد من التشويش يطفو على انفعالات شادية ووالدتها وشقيقها شادي، وهم بين مجموعة قريبة من العائلة والأصدقاء المتشاركين في الحزن واللوعة. حتى الكاهن الذي كان ينهي مزاميره عميقة التأثير في موسيقاها المرنمة على مقام قريب من الروح، كان يبدو مرتبكا مضطربا، فالعادة والمفترض الآن، أن نحمل جثمان المتوفى ونسير به مسيرا جماعيا مهيبا، نحو مقبرة القرية، الساجدة في قلبها تماما.. ولكنه لم يكن لدينا جثمان، كان السؤال وحده يتموضع في وسط بهو الكنيسة الحزينة، منعكسا بعطف متبادل على وجوه الحاضرين.. إلى أين؟!

عندما تقدمنا لنسلم ونعزي شادية وعائلتها المرهقة من سنوات الفقد المبهم، وهو غالبا أشد أنواع الفقد تأثيرا، وأكثره فتحا للجراح، لأنه بتكوينه يحتاج إلى قفلة، ثم يعجز عنها.. أدركت وأنا أمر أمامها ومن بين ومضات العزة والحسرة والتساؤل المشروع، كان هناك شيء من السلام قد بدأ يظهر على وجوههم، أعتقد أنه كان حقيقيا أكثر من حاجتي للبحث عنه، لقد اتخذت العائلة قرارها الصحيح.

في ريف مدينتنا الشمالي، تتداخل الأقدار والنهايات تماما كما تتداخل الأراضي والبساتين، إذ لا يمكنك منع ترعة الماء من إكمال طريقها شمالا لتعانق كل حبة تراب في طريقها، وتسقيها بدون تمييز. أفواج النحل التي تنطلق من خلاياها المنتشرة بكثرة في بيوت ومزارع السكان المحترفين في صناعة العسل، وربما ما هو أطيب منه، إذا ما حل السلام في العقول والأرواح بعد أن حلَّ على مخلفات المتاريس والدشم.. كانت الأفواج تنطلق حرة لتأكل ما تشاء وما تريد، غير آبهة بخطوط التماس، وما علق عليها من رواسب الحقد ونقص المعرفة والتهيؤات المختلقة عن بعضنا البعض.. فمن يريد أن يصنع أفضل العسل، لا يمكنه تحييد الزهور..

بعد أشهر قليلة، قادتني الأقدار المشبعة بالمعاني، إلى منزل العم محمود الأسمر في القرية المقابلة شمالا لقرية شادية، والتي يقال إن أبناءها، أو بعضهم على أقل تقدير كانوا في مقدمة الشبان المسلحين الذين دخلوا قبل أعوام إليها، وعاثوا فيها دون وعي، فتسببوا بمآسٍ لم تعد تُحصَرُ أو تُعَد..

كنا في أواسط الربيع، يصحبنا طقس لطيف يجعل من كل خطوة أمرا محببا حين نأخذها. بهدوء تقدمت بين البساتين والمنازل حتى وصلت دار الرجل الخجول الشجاع، الذي يستقبلك دون مبالغات، ولكن بكمية من المودة واللطافة، تعيي مخيلتك السابقة عن طبيعة المكان.

يقول العم أبو محمود، وهو يدخلنا في دهاليز حياته المضطربة إبان سنوات الحرب التي كانت دائرة هنا، وفي محاولة ربما لاستخلاص العبر، أو لإنزال ذلك الحمل الثقيل عن كاهليه القرويين المتعبين..

يتبع..

يزيد جرجوس

اترك تعليقاً