الأعداد

رحلة مغترب من فرنسا (حكاية بصمة سورية)

إنها قصة مشوقة تروي لنا حكاية مغترب حاول أن يشق طريقه في عالم الطب ودنيا الاغتراب، فلم تكن الطريق سهلة. لقد واجه مصاعب جمّة، وتعرض لكلام جارح لأنه سوري، لكن الإرادة والتصميم والانتماء وحب الوطن، كلمات جعلته يتجاوز كل العقبات التي وقفت في وجهه، ويعلن في النهاية حبه لبلده وانتماءه لأرضه؛ إنه الطبيب الجرّاح إبراهيم كرم.

تخرج الدكتور إبراهيم كرم في جامعة دمشق عام 1991 بمعدل جيد جدا، وكانت أطروحة التخرج عن أمراض الصدر، لكنه أصيب بإحباط بسبب عدد الوفيات المرتفع، مما جعله يتجه إلى الجراحة البولية.

في البداية قام بمحاولة السفر إلى أميركا، لكنهم اشترطوا عليه إظهار وثيقة أنه غير إرهابي، فكان جوابه: بلدك صانع الإرهاب، وعليك أن تثبت أنت أني إرهابي.

ولذلك لم يحصل على الفيزا.

بين عامي 1996-1997 حصل على شهادة الدراسات العليا بالجراحة البولية من جامعة دمشق وفتح عيادة في حي التضامن، ثم قُبل في مسابقة معيدين لصالح جامعة البعث والتحق بخدمة العلم، وحصل على منحة داخلية لمدة 9 أشهر لتعلم اللغة الفرنسية. ثم سافر إلى فرنسا وقُبل (دكتوراه في التشريح الجراحي) على ثلاث مراحل من جامعة مونبلييه.

وصل في 15 تموز عام 1997 وبعد دورة مكثفة باللغة الفرنسية في تولوز ذهب إلى مقابلة البروفسور المشرف، والصدمة الثانية كانت أنّ عليه الاختيار بين التشريح والجراحة البولية.

العبارة الصادمة بفرنسا :
من الواضح أننا لاننتمي لنفس الحضارة (يروي الدكتور كرم)، بمعنى أن حضارتي السورية لم تعطني المستوى المطلوب كي أقارب البحث العلمي بنفس أسلوب الفرنسيين.

وحين رجعت إلى السكن الجامعي حكيت الموقف للمشرفة على الموفدين فقالت لي: إنه رجل أحمق، راسل باريس.

فراسلت وحصلت على موافقة البروفسور Gérard Benoit شريطة أن أحضّر موضوع مشروع البحث، وقد حضرته فعلاً وذهبت إلى موعدي مع البروفسور المذكور، وحين اطلع على المشروع رماه في سلة المهملات وقال لي: مستواه من مستوى الوسخ: c’est de la merde.

فاسترجعت الأوراق الثلاث من سلة المهملات وقلت له:
“أفكاري لا ترمى مع المهملات”، فطلب مني غاضباً أن أنصرف.
وفي الممر سألني مساعده عما جرى معي ونصحني أن أذهب وأعرض مشروعي على البروفسور Vincent Delmas في جامعة باريس الخامسة، وهذا ما حصل.
“البروفسور ديلماس أعجب بالمشروع” ، ولكن طلب مني البحث عن أفكار جديدة، وكانت المعلوماتية في بداية تعميم استخدامها في عام 1997 فاستغليت ال week-end كي أذهب إلى قاعة المعلوماتية حيث وقعت على برنامج يستخدمه باحثون كنديون لتحويل عناصر تشريحية ثنائية البعد إلى ثلاثية البعد ( surf driver)، فحظيت الفكرة باهتمام البروفسور الجديد، ولكن كان لابد من الحصول على تمويل لشراء ال software. ساعدني في ذلك صديق سوري رجل أعمال بكندا، ولكن عدم وجود إمكانية لإجراء التلوينات النسيجية والمناعية الضرورية لدراسة أعصاب وأوعية الحوض، أدخلت اليأس والقنوط الى قلبي.

ولكن إرادة الحياة كما أحب أن أسميها جمعتني صدفة بابن حمص العدية الدكتور عصام عبد الصمد رحمه الله، والذي قرر أن يخصص ميزانية شهرية للتلوينات النسيجية والمناعية ضمن مخبره غير المعد أساساً لهذه المهمات، ولكن كرمه ورغبته الكبيرة بالمساعدة أعطياني الدافع والهمة لمتابعة المهمة.
وحين بدأت تظهر نتائج أبحاثي صار الجميع يتهافت كي يحجز لاسمه مكانا ضمن قائمة المؤلفين بما في ذلك البروفسور Gérard Benoit.
نشرُ هذه الأبحاث مكنني من الحصول على شهادة الدكتوراه بدرجة شرف، وهذه الأبحاث لها تطبيقات سريرية في غاية الفائدة: كاستئصال المثانة عند السيدات مع إجراء تحويل بولي مستمسك وهي عملية لم يكن من الممكن إجراؤها لو لم يمكننا الأسلوب الجديد الذي وضعت ُ حجر الأساس له من تمثيل أوعية وأعصاب الحوض بطريقة ثلاثية الأبعاد.
وذات يوم رن الهاتف وكان في الجهة الأخرى الدكتور بيان السيد.
عر ّف عن نفسه وقال لي نصحني البروفسور Gérard Benoit بالتواصل معك كي تساعدني في إنجاز الأبحاث الضرورية للحصول على درجة الدكتوراه في التشريح لصالح جامعة دمشق.
وهكذا استطعنا بفضل الهمة العالية للدكتور السيد، ومساعدة الدكتور عبد الصمد، تطبيق الاستراتيجية البحثية نفسها مع التوسع بآفاق جديدة، بحيث استطاع الدكتور السيد أن يضع بصمته المميزة ويعطي لعملنا ألقاً وتميزاً يشهد له القاصي والداني، لا بل نقل المشعل إلى الدكتور محمد زيتون الذي حصل أيضا على درجة الدكتوراه بعد إنجاز أبحاث تلتقي مع
الأسلوب البحثي الذي أغنى الأدب الطبي بمصطلح جديد:
التشريح المساعد بالكمبيوتر
-computer assisted
Anatomical Dissection CAAD)
مجمل هذه الأبحاث تركت أثراً مميزاً في الأدب الطبي الحديث، وما زال يستشهد بها في أغلب بلاد العالم، سواء في المقالات الراقية أم في مجلدات الأبحاث الطبية، وأنا شخصياً أفخر بأن هذه الطريقة الفريدة والجديدة تقارن بأبحاث مميزة كأبحاث البروفسور Cabrol أشهر جراحي القلب في تاريخ فرنسا الحديث.

وفي نهاية اللقاء يقول د.كرم: “وفي النهاية أفخر أيضًا بأن هذه الرحلة أعطتني إمكانية المشاركة في وضع هذه البصمة السورية المميزة في سجل الأبحاث العلمية الحديثة”

ها هي قصة أخرى تدعونا للفخر بأبنائنا المغتربين الذين حققوا إنجازات عديدة في بلاد الاغتراب، لكن هذه الشعور ممزوج دائما بالحزن لأنهم بعيدون عنا دون أن نحظى بوجودهم معنا..

ومتى ينتهي نزيف الاغتراب!؟؟… للحديث بقية…

إنها قصة فريدة تكاد أن تستحق الترجمة الى عملٍ سينمائي!!

اترك تعليقاً