بين وادي (عبقر) ووادي (السيلكون)

لابد للمبدعين حول العالم أن يمرّوا ولو قليلاً بوادي (عبقر)، الوادي القابع هناك في شبه الجزيرة العربية، والمسكون -كما تقول الأسطورة– بالجنّ والعفاريت؛ ملهم الشعراء والعلماء الأفذاذ الممسوسين العباقرة؛ والذين ليس لطموحاتهم وأحلامهم حدّ.. والذين يحوّلون الرؤى إلى واقع ملموس، ويجعلون العالم أحلى. ولكن ..

قيل قديماً : من يملك البحار يملك الثروات، ويملك العالم ؛ وبحار العالم اليوم خضراء إلكترونيّة، والبشر يتواصلون فيها عبر شبكات إلكترونيّة، فيتعارف بعضهم على بعض .

يحوّم فوق عالم (الإنترنت) هذا أربعة نسور خاطفة ، تحاول سبيه وسلبه وأخذه إلى عشّها في حرب ضروس. والقوى العالميّة الجديدة هذه ليست عسكريّة، ولا سياسيّة ؛ بل علميّة ثقافيّة اقتصاديّة تكنولوجيّة. والعمالقة الأربعة المتصارعون هم (غوغل) و(آبل) و(فيسبوك) و(أمازون). ولكلّ حقله الذي نبت فيه، واشتدت أذرعه وبأسه فيه. يمثّل هؤلاء أربعة حقول مختلفة؛ تمثّل (غوغل) المعرفة الكليّة ، والـ (فيس بوك) الشفافيّة الكليّة، و(آبل) الديناميكيّة الكليّة، و(أمازون) العرض والسوق الكليّة. ولمعرفة العمل الخارق والقوّة العظمى التي تمثلها قوى المستقبل الأربعة ، يمكن بلغة الأرقام القول : يجري في (غوغل) يوميّاً من الداخلين على (النت) بحث عن مليار سؤال، يحتاج الإجابة والشرح .

عالم الديجتال قارة جديدة مجهولة، ونحن نعيش عصرَ (ما بعد الرأسمالية) ، والكون الإلكترونيّ ليس له إرادة أو أخلاق أو هدف . إنه بكلمة مختصرة نسيج ابتكرته العقول الإنسانيّة ، واستخدمه الجنس البشريّ ؛ فانقلب العالم فجأة .

الرباعي الذي يتقاسم العالم القميّ هذا حالياً هم (غوغل Google) التي تدّعي (المعرفة الكليّة) ، و(آبل Apple) صاحبة المعرفة المتنقّلة (الحركة الكليّة) – كما وصفتها مجلّة درشبيغل الألمانية عام (2011) – .. أما الثالثة (أمازون Amazon) فهي المورّد لكلّ شيء .. إذ لم تعد مبيعاتها من الكتب، بل تبيع كلّ شيء، وتكسر بهذا احتكار الطفيليين بين البائع والشاري. أخيراً (فيسبوكFacebook) والعبقريّ (زوكربيرغ)، حيث عالم الشفافية الكاملة.

إنّه عالم جديد ، ذلك الذي حقّقته غوغل .. إذ لم يعد يدهش أحداً وهو يستخدم (غوغل إرث) في التحليق فوق الكرة الأرضيّة، يديرها كيف يشاء، فيستعرض القارّات والبحار، فيعرف أيّ أرض تقلّه، وأيّ سماء تظلّه، وأيّ نجم يشعّ فوق رأسه، وكل مكتبات العالم المليونيّة تحت تصرّفه .

إنّه عالم بهيج وخطير في الوقت نفسه.. فنحن نودّع به الذاكرة البشريّة، لتكون في أيدي مؤسّسات متطاحنة، تريد السيطرة على أفكارنا ووسائلنا واتصالاتنا، والويل من هذا الفخّ الذي نصبناه لأنفنسنا بأيدينا. يقول رئيسها (ايريك شميدت) إنّه لو أمكن تسريع البرنامج 2 ـ 5 ثواني في البحث، فلسوف نوفّر على البشريّة (مئة ألف) من سنيّ البحث .

المعرفة الكليّة أصبحت في متناول كلّ إنسان، وفي أيّ حقل معرفيّ ، وفي السؤال عن أيّ شيء . ولم يعد من حاجة لدخول مكتبة ، والبحث فيها لأيام وليال ؛ بل بكبسة زر تتداعى المعلومات من دماغ عملاق يلفّ الأرض والجغرافيا والتاريخ وفنون المعرفة التي تعبت في تحصيلها جهود الجنس البشريّ خلال ستة آلاف عام خلت .

بين وادي (عبقر) ووادي (السيلكون) في كاليفورنيا بالولايات المتحدة صلة قربى .. ففيهما الذكاء والفطنة والعبقريّة .. لكن بينهما يسكن لصوصٌ ومجرمو وقَتَلة وسفلة التاريخ، هنالك في (وادي الذئاب).

م . د محمود نقشو – عضو اتحاد الكتّاب العرب