أدب وفكر وماذا بعد؟

رجولة شاعر

كان عنترة الشاعر عبداً من عبس ـ وقصته شهيرة جداً ـ وقد قاتل قتالاً حسناً فألحقه أبوه بنسبه, وكان عنترة بطلاً شجاعاً كبير النفس, رقيق القلب, رحب الصدر, عفيفاً. وقد أحب عبلة ابنة عمه, فهاجت شاعريته واتسع خياله, وأنشأ معلقته الشهيرة, فبدأ بذكر عبلة:

هل غادر الشعراء من متردّم؟

أم هل عرفت الدار بعد توهّم؟

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

وعمي صباحاً دارَ عبلة واسلمي

وولوع عنترة بعبلة لا يزال إلى أيامنا هذه مثلاً شارداً.
وفي غزل عنترة صورة فريدة من المزج بين الهوى والبطولة.
فهو المحب والرجل في وقت واحد معاً, وخير ما يمثل فنه المزدوج قوله:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسِّمِ

وهو لا يزال في مذهبه هذا, ومن التعبير فيه عما يجري بنفس محبوبته عند التصوير الجسدي:

ولقد نظرتُ غداة فارق أهلها

نظرَ المحب بطرف عين المغرمِ

نظرت إليك بمقلةٍ مكحولة

نظرَ الملول بطرفه المتقسّم

وبحاجب كالنون زين وجهها

وبناهد خسٍ وكشحٍ أهضم

فهو شاعر عفيف, وفيّ في حبه, لا يتعدد هواه كما يفعل غيره. إلا أنه لا يزال رجلاً قوي الخُلُق:

أغشى فتاة الحي عند حليلها

وإذا غزا في الجيش لا أغشاها

وهو شديد التعلق بهذه الفضائل التي كانت في عهده من سمات الرجولة:

وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي

حتى يـواري جـارتي مأواهـا

إني امرؤ سمح الخليقة ماجدٌ

لا أتبع النفـس اللجـوج هواها

وَلَئِن سَأَلتَ بِذاكَ عَبلَةَ خَبَّرَت

أَن لا أُريدُ مِنَ النِساءِ سِـواهـا

وهو شاعر مطبوع, رقيق النفس, صادق الشعور:

أَفَمِن بُكاءِ حَمامَةٍ في أَيكَةٍ

ذَرَفَتْ دُموعُكَ فَوقَ ظَهرِ المَحمِلِ

كَالدُرِّ أَو فَضَضِ الجُمانِ تَقَطَّعَت

مِنهُ عَقائِدُ سِلكِهِ لَم يوصَلِ

ونتأمل قوله:

وأنتِ التي كلفتني دلج الدجى

وبيض القطا بالجهلتين جثوم

فليس أروع من هذه الصورة, وليس أعرق من الشاعرية من الدلالة بها على هواه, وليس أكثر منها توفيقاً في الربط بين حبه, وبين صورة من صور بطولته: وهي السّرى في الليل, تحقيقاً لمطامحه وأماله:

أنت التي كلفني هواك مجانبة الكرى, و أطار من عيني الرقاد, ودفع بي إلى قطع المفاوز في ظلمة الليل ورهبته, وطيور القطا البيض لا تزال تتراءى خلال فحمة الليل جثوماً على ضفتي الوادي, لم يثرها بعد خوف إنسان فارق الرقاد كما فارقته. فالناس لا يزالون هجوعاً, ولم يخف الفراش إلا جنب رجل مثلي.
ونتأمل قدرة الشاعر المعجزة في إثارة هذه المعاني جميعاً, وفي رسم هذا العالم المزدحم بالصور في هذه الألفاظ القصار.

كيف دلّ على ظلمة الليل حتى لا تتراءى فيه إلا هذه الطيور الناصعة البياض, وكيف دل على سكونه, حتى أن هذه الطيور التي لا يخفى عليها سمع أضأل الأصوات وأخفها, لا تزال نائمة. وكيف أشار إلى انفراده هو باليقظة بجعله هذه الطيور جثوماً نوّماً على جنبتي الوادي. والوادي أول شيء يَرِدُه أولُّ مستيقظ: تَرِدُه العذارى حين يستيقظن في الصحراء ليملأن جرارهن والصبح لمّا يتفجّر نوره.

نعم إنها رجولة وبطولة وشاعرية.

د.جودت ابراهيم

اترك تعليقاً