أدب وفكر وماذا بعد؟

ومن الحب ما قتل

إن الحديث عن الحب حديث متشعب الأطراف،.. فما وجدت له تعريفاً، أو تصنيفاً دقيقاً يحيط بالمعاني المختلفة لهذه الكلمة، التي تناقلتها الأيدي يوماً بعد يوم منذ الأزل، وتحدثت عنها الشفاه، وخفقت لها القلوب، ودمعت لها العيون، عيون المحبين، وكأن الحب رجل يقرع الأبواب فتفتح له، فما سرُّ هذا الرجل الحسن الاستقبال الذي ما من أحد يوصد بوجهه الأبواب؟ّ إن سرّه لعجيب حقاً!.

ويبدو لي أن الحب واحد ولكنه يدخل غفلة قلوب الناس بأشكال مختلفة ويترك بها آثاراً متفاوتة، وذلك لتفاوت شدته في نفوس الناس وقلوبهم ولاختلاف بيئاتهم، ومن هنا فقد جعل الناس له مراتب لفظية متعددة مثل:
الهوى، العلاقة، الكلف، العشق، الشغف، الجوي، التيم، الهيام، الصبابة، الوجد، الدنف، الود، الوله، … وغير ذلك.

أما الهوى فهو ميل النفس، والعلاقة هي الحب اللازم للقلب وسميت كذلك لتعلق القلب بالمحبوب، والكلف شدة الحب أو عجب المحب بالمحبوب، والشغف إصابة شغاف القلب أي غلافه، والجوي هو الهوى الباطن، و التيم هو من استعبده الحب فأصبح له عبداً، وفي الهيام يذهب المحب على وجهه لغلبة الهوى عليه، والصبابة رقة الشوق وحرارته، والوجد هو الحب الذي يرافقه الحزن، و الدنف هو المرض في الحب، أما الود فهو خالص الحب وألطفه وأرقه، والوله هو ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد.

وقد أحب الشعراء المرأة فتغزلوا بها ـ أي توددوا إليها ـ ونسجوا في حبها القصائد حتى صار الغزل يشغل من الإرث الشعري مكاناً واسعاً. سجل فيه الشعراء عواطفهم التي ابتعثها فيهم الحب، وما يؤدي إليه هذا الحب من وصل أو هجر، ومن سعادة أو شقاء، ومن لذة أو غصة، وصوروا هذه العواطف، وأفنوا في تصويرها ملكاتهم ومواهبهم.

والحب مهما تعددت مراتبه، واختلفت أشكاله وألوانه فهو: إما مقدس أو عذري أو عابث، فالمقدس كحب الله والأنبياء والأهل والوطن والفضيلة.. والعابث الماجن هو العبث بالقيم الروحية والأخلاقية والخروج عليها، وأما العذري فهو الحب العفيف الذي يدور داخل إطار المجتمع ويلتزم جانب الحشمة، وقد نشأ الحب العذري ـ أساساً ـ من التقاء العاطفة الدينية (الأخلاق) والميول الجنسية معاً في نفس من حسن إيمانه وقوي يقينه وسَمَت أخلاقه، فالأخلاق لم تنفخ في نار الحب لتطفئها فتلك من شؤون النفس والحياة، فمن العفة التي كانت تواكبها الأديان، ومن الحب الذي كانت تواكبه الغريزة كان الحب العذري، وكان لا بد للأعفّة ممن أخفقوا في حبهم من أن يعبروا عن إخفاقهم وأن يتحدثوا عنه فكان الغزل العذري الذي هو المظهر الفني للعواطف المتعففة والملتهبة في آن معاً، والتي وجدت أن هذا التعويض الفني هو خير ما تطفي به لهيبها وتتسامى به في غرائزها، ومن أروع القصائد التي قيلت في الغزل العذري في رأينا قصيدة الشاعر جميل بن معمر العذري التي يقول فيها:
عَلِقتُ الهَوى مِنها وَليداً فَلَم يَزَل

إلى اليَومِ يَنمي حُبُّها وَيَزيدُ

وَأَفنَيتُ عُمري بِاِنتِظارِيَ وَعدَها

وَأَبلَيتُ فيها الدَهرَ وَهوَ جَديدُ

هكذا نعم هكذا يعيش العقل في إسار القلب، يمضي بصاحبه في كل حيز خشن صعب ويقذف به فوق الرمال المشبوبة يشتوي بها.. يوقد النار ويحترق بها. وهكذا يتصف هذا الحب بالحرارة الملتهبة والديمومة الدائمة والعفة المحصنة، إنه يجمع هذه الصفات في نفس واحدة ويتركها تئن وتشتكي وتتضرع وتتلوى.. والعذري لا يصف حبيبته ولم يفعل؟ أليست في عينه وفي قلبه أحب الناس إليه وأحسنهم عنده؟!. وماذا يفيد من مشاركة الناس في هذا الإعجاب؟.

أما الشكل الآخر للحب هو ذلك الحب العابث اللاهي، فهو مغامرة عابرة يمكن أن تتكرر دائماً بل تصاغ حين تصاغ لكي تتكرر مرة أخرى دون أن تحمل معنى التجربة العميقة الكاملة، على حين أن الحب عند العذريين تجربة إنسانية نادرة فريدة لا تتكرر ولا يمكن أن تتكرر لأنها تقوم على الانجذاب المطلق نحو إنسانة واحدة، وبذلك يكون الحب العذري قد جمع بين مفهومين مفهوم الحب ومفهوم العفة، أما الماجن هذا فقد أهدر ذلك المعنى الاجتماعي للحب ذلك أن الحبيب يركز فيه حول ذاته وحول حب كل قواه الداخلية، فيظهر حبه متخماً بكثرة من النساء المحبوبات، فهو يجد الحب في كل امرأة ويجد الجمال كل مرة في واحدة، وبذلك يقسم الحبيب نفسه بينهن قسمة لها في كل حين حب ومع كل واحدة صورة، فيعيش هذا الحب في الليالي، وينمو في سوادها، ولكنه لا ينفذ إلى أعماق النفس ولا يرتوي منها ولا يرويها.

إنه يبدأ منها ولكنه يبدأ من سطوحها القريبة، ويلامسها ولكنه لا يتعمقها، فتظل العلائق بين الرجل وصواحبه علائق مفككة، ما تتميز به من شكوك وقلق، ذلك أن هذه العلائق لم تكن صافية، ولم تكن تشيع فيها الثقة ولا يملؤها جوهر الحب، إنهن لا يأمنّه، وإنه كذلك لا يأمنهنّ، إنّهن عرفن منه أنه مَلولٌ من الهوى الواحد، فهو ينتقل لهوى آخر من حين لآخر، وليس في هذا القول تجريداً لهذا الحب من أبرز ما يميز الحب، من العاطفة، بل قد يكون فيه تجريد من لهب العاطفة المكتنزة التي يحسها المرء في الحب العذري.. فلماذا تلتهب العاطفة هنا؟ أو لماذا يظل لها لهيبها ما دامت تؤمن بأنها واصلة إلى الذي تريد.. فإن لم يكن هنا، فتجد هدفاً آخر تصل إليه؟! نقرأ هذه الأبيات لشاعر الحب الماجن عمر بن أبي ربيعة:
ليـت هنـداً أنجـزتنا ما تعد

وشفت أنفسنا مما تجد

ولقد أذكر إذ قلت لها

ودموعي فوق خدي تطرد

قُلتُ: مَن أَنتِ فَقالَت أَنا مَن

شَفَّهُ الوَجدُ وَأَبلاهُ الكَمَد

نَحنُ أَهلُ الخَيفِ مِن أَهلِ مِنىً

ما لِمَقتولٍ قَتَلناهُ قَوَد

قُلتُ أَهلاً أَنتُمُ بُغيَتُنا

فَتَسَمَّينَ فَقالَت أَنا هِند

فعُمَر شاعرنا هذا لا يحمل حبه محمل الجد، ولا ينزله من نفسه منزلة التقديس.. والشعراء أمثاله لا يمكن أن يتهموا بصدق عاطفتهم في شعرهم، ذلك لأنهم في اللحظات التي يقولون فيها هذا الشعر إنّما يصدرون عن اندفاع قوي، وإنما يحسون في ذواتهم اضطرام مشاعرهم.

د.جودت إبراهيم

تعليق واحد

  • لافض فوك يا صديقي هلا تذكرتني طمني عنك عساكم بخير
    سعدالله بركات

اترك تعليقاً