أدب وفكر وماذا بعد؟

الأوائل من الشعراء -امرؤ القيس-

تتردد في كتب تاريخ الأدب أسماء مختلفة لامرئ القيس فيسمى جندباً وعدياً, ويكنى بأبي وهب وأبي زيد وأبي الحارث, ويلقب بذي القروح والملك الضليل. وأشهر ألقابه امرؤ القيس ـ والقيس من أصنام الجاهلية كانوا يعبدونه وينتسبون إليه ـ وهو من قبيلة كندة. ومن بيت السيادة فيها, وهي قبيلة يمنية, كانت تنزل في غربي حضرموت, وكان والده أميراً على رأسها, ولد في أوائل القرن السادس للميلاد, وقد مات شاباً.

طرده والده وأقسم ألا يقيم معه أنفةً من قوله الشعر, فاتّجه إلى الصيد وشربِ الخمر, وقد أتاه خبرُ مقتل أبيه وهو في الصيد فقال جملته المشهورة: “ضيّعني صغيراً وحمّلني دمه كبيراً, لا صحو اليوم ولا سكر غداً, اليومَ خمرٌ وغداً أمر”. فذهبتْ مثلاً. ونُسجت حول امرئ القيس القصص بعد مقتل أبيه. ولكن من المؤكد أنه كان ملكاً في شمالي الحجاز.

ومما لاشك فيه أن المراحل التي قطعها الشعر العربي حتى استوى في صورته (الجاهلية) غامضة, وحاول ابن سلّام في (طبقات فحول الشعراء) أن يزيح بعض هذا الغموض, فتحدث عن أوائل الشعراء الجاهليين, وهم عنده أوائل الحقبة الجاهلية المكتملة الخلق والبناء في صياغة القصيدة العربية, وكأنّ الأوائل الذين أنشؤوا هذه القصيدة في الزمن الأقدم ونهجوا لها سننها طواهم الزمان, وفي ديوان امرئ القيس:

عوجا على الطلل المُحيل لأنّنا

نبكي الديار كما بكى ابن خُذام

ولا نعرف من أمر ابن خذام هذا شيئاً سوى أنه أول من بكى الديار ووقف على الأطلال.

وأشهر ما قال امرؤ القيس شعراً معلقته التي مطلعها:

قفا نبكي من ذكرى حبيبٍ ومنزل

بسِقط اللوى بين الدَّخُولِ فحوملِ

“وقد عدَّ القدماء هذا المطلع من مبتكراته, إذ وقف واستوقف, وبكى وأبكى مَنْ معه وذكر الحبيب والمنزل, ثم أخذ يصور لنا كيف كان أصحابه يحاولون أن ينفّسوا عنه, ويقصُّ علينا مغامراته مع النساء, فيفيض في وصف يوم عنيزة, وفي أثناء ذلك يتعهر ولا يتستر، ولعنيزة بيته المشهور:

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعاً

فألهيتها عن ذي تمائم مغيلِ

ثم يعود فيبث فاطمة حبَّه مصوِّراً دلالها ومعاتباً لها عتاباً رقيقاً في تلك الأبيات البديعة:

أَفاطِمُ مَهلاً بَعضَ هَذا التَدَلُّلِ

وَإِن كُنتِ قَد أَزمَعتِ صَرمي فَأَجمِلي

وَإِن تَكُ قَد ساءَتكِ مِنّي خِليقَةٌ

فَسُلّي ثِيـابي مِن ثِيابِكِ تَنسُلِ

أَغَرَّكِ مِنّي أَنَّ حُبَّكِ قاتِلي

وَأَنَّكِ مَهما تَأمُري القَلبَ يَفعَلِ

ثم يصور كيف يقتحم الليل المخوف, فيصوره بسواده وهمومه كأنه أمواج لا تنتهي، ويُحسُّ كأنه طال وأسرف حتى لَيُظنَّ كأنّ نجومه شدّت بأمراس متينة في الجبال فهي لا تتحرك ولا تزول, يقول:

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

ألاَ أيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيْلُ ألاَ انْجَلِ

بِصُبْحٍ ومَا الإصْبَاحُ مِنْكَ بِأمْثَلِ

فيا لك من ليلٍ كأن نجومه

بكل مغار الفتل شدّت بيذبُلِ

ثم يخرج لوصف فرسه وصيده ولذّاته فيه وكأنه يريد أن يضع بين يدي صاحبته فروسيته وشجاعته ومهارته:

مِكَرٍّ مِفِرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا

كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

واستطرد في وصف فرسه وصفاً دقيقاً وجميلاً ثم وصف سرباً من البقر الوحشي عنّ لهم في الصحراء, ثم ينتقل إلى وصف الأمطار والسيول التي ألمّت بمنزل قومه.

غير أن حياة امرئ القيس لن تجريَ على هذه الوتيرة من الفراغ الذي يعد لاقتناص اللّذات, وانقلبت حياته من حياة لاهية إلى حياة جادة بعد مقتل أبيه, فأحسّ أن شيئاً ينتظره فقال:

كَأَنِّيَ لَم أَركَبْ جَواداً لِلَذَّةٍ

وَلَم أَتَبَطَّن كاعِباً ذاتَ خِلخالِ

فامرؤ القيس هو الذي نهج للشعراء الجاهليين من بعده الحديث في بكاء الديار والغزل القصصي ووصف الليل والخيل والصيد والمطر والسيول والشكوى من الدهر, ولعله هو الذي ألهم الشاعر العربي على مر العصور فكرة التشبيه التي برزت بشكل جميل وواضح في معلقته.

والحق أن امرأ القيس يعد أباً للشعر الجاهلي بل للشعر العربي جميعه, فقد استوى عنده في صورة رائعة, كان مثالاً رائعاً اقتدى به الشعراء من بعده.

د.جودت إبراهيم

اترك تعليقاً