أدب وفكر وماذا بعد؟

شاعر الحرب والحكمة والسلام (زهير بن أبي سلمى)

هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني, فأبوه من قبيلة مزنة، عاش في منازل ابن غطفان وأخواله من بني مرّة الذبيانيين، وفي كنف خاله بشامة بن الغدير، وكان شاعراً مُجيداً وكان كثير المال فأعطى زهيراً نصيباً منه، كان زهيرٌ مشهوراً برزانته وحبه للسلام, وقد نظم معلقته على إثر الحرب التي دارت رحاها بين عبس وفزارة، وراح يتحدث في شعره طويلاً عن هذه الحرب، مشيداً بهرم بن سنان والحارث بن عوف سيدَي بني مرّة اللذَيْن حقنا دماء عبس وذبيان بعد أن طال عليهما الأمد في تلك الحرب، إذ تحمّلا ديات القتلى، ويقال إنها كانت ثلاثة آلاف بعير أدّياها في ثلاث سنين.
واعتدّ زهير بهذه المنة الجليلة فأشاد بها في معلقته، وظل طوال حياته يمدح هَرِماً ويمجّده، وهرمٌ يُغدق عليه، وذهب ما أعطاه هرم زهيراً، أما ما أعطاه زهير هرماً فخلد على الأيام.
ومن طريف ما يروى في هذا الصدد أن هرماً حلف ألاّ يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلّم عليه إلا أعطاه: عبداً أو وليدة أو فرساً، فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في مَلأ قال: “عِموا صباحاً غير هرم وخيركم استثنيت”.

وحياةُ زهير من الوجهة الأدبية طريفة، فكان أبوه شاعراً، وكذلك كان خاله، وأختاه سلمى والخنساء، وورث الشعرَ عنه ابناه كعب وبُجير، فنحن بإزاء شاعر اتصل الشعر في بيته اتصالاً لم يعرف لشاعر جاهلي ممن عاصروه، وقد عُمِّر طويلاً ومات قبيل الإسلام بمدة قليلة.
ولم يعرف الشعر الجاهلي شاعراً عُني بتنقيحه عناية زهير، فنحن بإزاء شاعر ممتاز عاش للشعر يرويه ويعلمه فنظم في المديح والغزل ووصف الصيد والهجاء، وكان يجنح إلى الحكمة في تضاعيف ذلك وتلمع بين مدائح زهير معلقته، فقد نظمها مشيداً بهرم بن سنان والحارث بن عوف، لاهجاً بالثناء على السيدين وما قدما للقبيلتين من ديات حقنت للدماء, يقول:
يميناً لنعم السيدان وجدتما
على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبساً وذبيان بعدما
تفانوا ودقوا بينهـم عطر منـشم
وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِلمَ واسِعاً
بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأَمرِ نَسلَمِ
فكان بذلك شذوذاً على ذوق الجاهليين وأشعارهم التي تدوّي بفكرة الأخذ بالثأر والترامي على الحرب ترامي الفَراش على النار، وقد مضى يصور الحرب بصورة بشعة, فيقول:
وما الحـرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجّم
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً
وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها
وَتَلقَح كِشـافاً ثُمَّ تَحمِـل فَتُتئِمِ

نحن إذاً أمام شخصية ممتازة من شخصيات الشعر الجاهلي، شخصية فيها برّ ورحمة، وفيها نزعة قوية إلى الخير، مَدَحَ فاعلي الخير ببراعة واضحة، ولكنه كما قال عنه عمر بن الخطاب: “كان لا يمتدح الرجلَ إلا بما يكون فيه”.

كان يقدم لقصائده بالغزل متبعاً سُنّةَ الجاهليين في الوقوف بالأطلال وذكر الديار، فهو ليس من العشاق ولا ممن يشغلون أنفسهم بالغزل وبيان لوعة الحب، وإنما هو يتحدث في ذلك ليظهر قدرته على التصوير الفني.

وللشاعر هجاءٌ في بعض القبائل، ولكنه لا يوغل في الإقذاع وهتك الأعراض بل يُبقي على مهجوه ونفسه عامداًً إلى السخرية، كقوله في عشيرة حصن بن عليم من الكلبيين:
وَما أَدري وَسَوفَ إِخالُ أَدري
أَقَومٌ آلُ حِصنٍ أَم نِساءُ
فإن تكنِ النساءُ مخبآتٍ
فحقّ لكلِّ واحدةٍ هداءُ
فهن نساء خبئن بالخدور، وينبغي أن يزوجن، وهي سخرية مرّة تحمل كلّ ما يريد من وصفهم بالجبن.
وقد تكون الأبيات التي تتصل بفكرة الحياة والموت من أروع ما قال زهير:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تُمِتْهُ ومن تخطئ يُعمر فيهرم
ففي البيت صورة بديعة إذ يشبه الموت بناقة عشواء لا تبصر طريقها، فهي تخبط الطريق خبطاً أعمى ليس له نظام ولا قياس.

وفي أشعاره نقرأ حكماً كثيرة ينثرها نثراً خلال الموضوعات المختلفة التي يلم بها، فمن ذلك:
وَكائِنْ تَرى مِن صامِتٍ لَك مُعجب
زِيادَتُه أَو نَقصُهُ في التَّكَلُّمِ
ومنه:
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه
فلم يبقَ إلا صورة اللحم والدم
ومن أروع حكمه:
سألنا فأعطيتم وعُدنا فعدتم
ومن أكثر التسآل يوماً سيُحرم

فزهير شاعر خبر صناعة الشعر الجاهلي وعرف أساليبها، واستطاع أن يؤدي أجمل صورة لها في لفظه وقوالبه وصيغه، فهو شاعر الجمال وشاعر الحقيقة بحكمه, وهو شاعر الخير بدعوته إلى السلام… وما أروع الحق والخير والجمال!.

د. جودت إبراهيم

عن الكاتب

جريدة حمص

جريدة حمص أول صحيفة صدرت في مدينة حمص – سوريا عام /1909/ عن مطرانية الروم الأرثوذكس لتكون لسان حال المدينة.

اترك تعليقاً