أدب وفكر وماذا بعد؟

وفي البُزاة شموخٌ… وهي تحتضر

يطوي العبقري في خلال عمر واحد أعمار أجيالٍ سبقته, وأجيالٍ رافقته وأجيالٍ تأتي بعده, فيموت ليحيا, ويحيا غيره ليموت.

ويحيا العبقري في قلوب الأجيال لأنه يعطي آلامها الخرساء ألسنة من نار, ويمد آمالها بأجنحة من نور, فللحم والدم في كل زمان ومكان مغاور سحيقة تتزاوج في ظلماتها الملذات فتنسل أوجاعاً, وللروح أجواء فسيحة يرودها الفكر والخيال فيضرمان الشوق إلى الانعتاق من الوجع.

والعبقري من استطاع أن يسبر الأغوار ويجوب الأعالي وأن يعود من تلك وهذه, بصورة الإنسان الأمثل وهدفه الأسمى, ألا وهو الحياة… وجبران كان ذلك العبقري.

كان جبران خليل جبران رجلاً مفطوراً على الصدق والرفق واللين, مؤمناً بكرامة الإنسان, فاصطدم اصطداماً عنيفاً بخشونة الواقع ورياء الحياة البشرية المكبَّلة بالتقاليد والشرائع, فصوّر هذين الوجهين المتناقضين للحياة في كل ما كتب, وأفضل التصوير هذا كان في قصيدته “المواكب”.

في القصيدة تيّاران يجريان في اتجاهين متعاكسين, وليس من صلة بينهما إلا التي يقيمها خيال الشاعر في وجدان القارئ. والتياران يبدوان كما لو كانا حواراً بين شخصين ولكنهما ليس كذلك, بل جلّ ما في الأمر أن الأول يمثل الحياة بظاهرها القبيح وباطنها الجميل, والثاني يمثلها وحدةً روحية لا باطن لها ولا ظاهر, الأول يتبرم في الحياة البشرية من رياء وضعف وذل وقلق ونضال دائم بين الخير والشر, والثاني يمجّد الحياة في الغاب.

فالصوتان ليسا سوى صدى النزاع الداخلي في نفس جبران ما بين إيمانه بفطرة الإنسان وبين ما كان يبصره في حياة الناس, من بشاعة ووجع وتشويش، يفتتح الصوت الأول بأبيات في الخير والشر، ثم ينتقل بنا إلى الحياة فالدين والعدل والحق والعلم والحرية واللطف فالظرف فالحب فالجنون فالسعادة فالروح والجسد فالموت, يقول:
فالأرضُ خمّارةٌ والدهرُ صاحبُها
وليس يرضى بها غيرُ الألى سكروا
وقوله في الحق:
والحق للعزم، والأرواح إن قويت
سادت، وإن ضعفت حلت بها الغير
وفي الزرازير جبن وهي طائرة
وفي البُزاة شموخ وهي تحتضر

وقوله في الحب:
و الحب إن قادت الأجسامُ موكبَه
إلى فراش من اللذّات ينتحر
والحب في الروح لا في الجسم نعرفه
كالخمر للوحي لا للسكر تنعصر

أما الصوت الثاني فنسمعه في نهاية كل جولة من جولات الصوت الأول.

فإن تبرّم الأوّل بحزن أو بعبودية أو بجهل, وإن تحدث عن الحق والعدل والسعادة والموت والحياة وما إليها, انبرى الثاني يقول: “ليس في الغابات” شيءٌ من ذلك, بل كلّ ما فيها ألفة وصفاء وهناء، لا يشوبها شيء من التناقض القائم في أفكار الناس وقلوبهم، من حيث علاقتهم بعضهم ببعض, وبالكائنات من حواليهم, وهو جدّ ولوع بالنفخ في الناي الذي يتخذ من أنغامه رمزاً للخلود, يقول:
ليس في الغابات سكر
من مُدام أو خيال……
أعطني الناي وغَنِّ
فالغنا خير الشراب
وأنين الناي يبقى
بعد أن تفنى الهضاب

وينتهي الصوت الثاني بنشيد جميل يخاطب فيه الصوت الأول فيقول في جملة ما يقول:
هل تحممتَ بعطرِ
وتنشّفت بنور
وشربتَ الفجر خمراً
في كؤوس من أثير؟
هل فرشت العشب ليلاً
وتلحفت الفضا
زاهداً في ما سيأتي
ناسياً ما قد مضى
وسكون الليل بحر
موجُه في مسمعك
وبصدر الليل قلب
خافق في مضجعك
أليس هذا رائعا ؟ تخيّل!!.

د. جودت إبراهيم 

2 تعليقات

  • لايسعني إلا أن أهنئك على هذا الانجاز واتمنى لك دوام التقدم والتوفيق والنجاح الدائم

  • مقال رائع أشكرك لأنك سلطت الضوء على هذه الكلمات الجميلة التي غنتها فيروز و لا أمل من سماعها

اترك تعليقاً