تاريخ

صدد: عراقة… وتاريخ…

عندما أطلق شباب البلدة مهرجانها السنوي ، مطالع الألفية وأسموه ،، صدد العراقة ،، خطر لي وربما لغيري ، تساؤل ؟ ما لبث أن تحول إلى محرض، وإن متأخراً، قادني مع آخرين إلى استحضار عناصر هامة، تكرّس هذا المفهوم ،وقد تكون غابت عن الذهن ، لتناثرها هنا أو هناك أو لتجاهل ، فوددت حبك ترابطها وتنسيقه مع ما اسجد ،على نحو يسهل تداوله ، ولعل من أهم تلك العناصر:

أن صدد مذكورة في العهد القديم ، حزقيال 47:15 (وَهَذَا تُخْمُ ٱلْأَرْضِ: نَحْوَ ٱلشِّمَالِ مِنَ ٱلْبَحْرِ ٱلْكَبِيرِ طَرِيقُ حِثْلُونَ إِلَى ٱلْمَجِيءِ إِلَى صَدَدَ)
وفي سفرالعدد 34:8 (وَمِنْ جَبَلِ هُورَ تَرْسُمُونَ إِلَى مَدْخَلِ حَمَاةَ، وَتَكُونُ مَخَارِجُ ٱلتَّخْمِ إِلَى صَدَدَ)

حجارة زرقاء كانت غطاءً لبئر كنيسة مار سركيس ، وما كتب عليها باليونانية ،يشي بدلالة تاريخية موغلة في القدم ، لكن طمست ببناء حديث عليها .

الحجرالمكعب في معمودية الكنيسة نفسها ، أكد المطران سلوانس النعمة ،صحة ترجمة كتابتها اليونانية التي تقول : (( سنة 284 م ،حضر الإمبراطور سيفاكاغوس ،وقدم قرابين إلى الآلهة احتفالا بالنصر ، هدية من الملك وابنه إلى الإله بعل ..))

وبرج صدد ألا يشي بتاريخ عريق ، رغم اندثاره؟ وقرأنا أنه بني في العهد البيزنطي من حجارة ضخمة ( 2.5 م طولاً و1.5 م عرضاً و 1 م ارتفاعاً) وبلغ طوله 10 أمتار وعرضه 8 أمتار وارتفاعه 22 م، على أربعة طوابق، فيها نوافذ صغيرة لمراقبة القوافل ، وكان البرج يرى من بعد 8 كم، قبل أن يتهدم ١٩١٩ ويهدم عام ١٩٣٥ بغفلة جهل أو زمن استعماري…

استجارة الأمير الشاعر أبي فراس الحمداني ،بهذه البلدة القصية، لعلاقة الخؤولة مع أهلها ،وتوسده ترابها على مدى نحو ألف عام ويزيد….وذلك ما استحضرته احتفالية سنوية باسمه ، على مدى 3 سنوات 2007 -2009 ،ولعل من يعيد إطلاقها ، مطالع نيسان ذكرى مقتله عام ٩٦٨م ، بأمر من ابن أخته الذي أرسل قرغويه يطارده الى حمص فصدد ، حيث دفن شمال البلدة ، وراحت الأجيال تتناقل على مدى ١٠ قرون الحديث عن ،،قبر الأمير ،، حتى وصل إلينا ، وتعرفنا على مكانه أيام الفلاحة والحصاد قربه.. ، وأما تكريس هذه الواقعة التاريخية ، فبات أكثر من مُلحّ بعد غفلة نقل الرفاة إلى قلعة حمص ١٩٩٧ ، ومازال الأمل معقوداً على نصب تذكاري ، وثمة مبادرات كدنا ننجح ببعضها. وقد بادر السيد ناصيف قسطون ،،أبو ثائر،، باستعداده للمساهمة بذلك .

…وأن يذكر ابن الأثير صدد ، قبل تسعة قرون بأنها: ((قرية في طرف البرية عند حمص))، وأن يصف ابن العديم أهميتها التجارية: (( تقع صدد في نقطة تلاقي طرقات كثيرة هامة وهي بين سلمية والشام))، فذاك دليل عراقة وتاريخ ، ربما قصدهما الشاعر المهجري زكي قنصل ، صهر صدد في قصيدته عام ١٩٨٢:

أنام في الشام أو بغداد أو عدن
وأستفيق قرير العين في صدد

في كتاب رحلته قبل ٢٠٠عام ونيف ، ذكر فتح الله الصايغ الحلبي، أن صدد كانت محطته الاولى بعد حمص .في طريقه الى القريتين فتدمر حيث أقام فيها بضيافة الشيخ عساف أبي إبراهيم ، الذي ساعده على مواصلة طريقه، وقد وصف الصايغ ، برجها بطبقاته الأربع ،كما وصف كنائسها الخمس ومازال بعضها شامخا ببنيان وحكايات… تشهد على مكانة البلدة في الكتاب السوري العريق…

إلى عام ١٧٠٠ يعود بناء كنيستي ،مار برصوم و مار تيواداروس، المتميزة بسعتها و بزخارف سقفها العالي وفيها كتاب للعلاّمة الكبير مار ميخائيل الكبير، عام ١٧٥٦بنيت كنيستا مار جرجس ومار سركيس وباخوس وهما تحكيان بطرازهما العمراني الحجري ، وقصة بنائهما ، ما لا يوصف ، ذلك فضلا عن الثريات الأثرية ، ثمة الرسوم الجدارية ، آيات من العراقة وجمالية الفن أبدعتها ريشة الفنان العبقري الأسقف إبراهيم اليازجي …. ..

في صدد وأمثالها نلمس،، معنى التجذّر والانتماء والبقاء،، كما قرأه الباحث والإعلامي اللبناني غسان الشامي .،، عبر لفتة تكريمية حين عاد الى ربوعها 1\1\2022 ليقرع ،، أجراس المشرق ،، ويسمع من به صمم ، مختتماً عشر سنوات لبرنامجه المتلفز حين قال ،، صدد تألّمت وعانت من مجزرة الحرب على سوريا ونهضت وأقلعت مثلما فعلت عبر التاريخ، صدد.. التي ردعت نموذج التصحّر [الفكري ]، ..انحدرت منها هجراتٌ و توالدت منها بلداتٌ ..وحملها أهلها كتاباً … وحنيناً في أصقاع الأرض، صدد ..التاريخ وعناد الجذور …،، …

إلى صدد تنحدر أصول أسر لبنانية عديدة ، وثلاثة من رؤساء للبنان : أيوب ثابت، بترو طراد، كميل شمعون ، ومنها تولى البطريرك عبدالله صطوف سدة الكرسي الإنطاكي ١٩٠٦-١٩١٥ ، الذي أدخل الطباعة إلى الأبرشيات ، وأسس الأبرشية الكنعانية في الهند، حيث نال وسام الملك البريطاني إدوارد السابع، وقابل الملكة فيكتوريا مرتين، قبل مشاركته في مؤتمر لا مبيت في لندن ، فيما أعطت صدد 20 أسقفا ،على مدى قرون، وقد كانت أسقفيةً، مع حوّارين المجاورة [حيث آثار قصر المنذر بن الحارث الغساني ، ومن أديرة صدد ، دير/ مار ماما/ في منطقة ،،جزيرة عمرو[الدير بالسريانية]،، وتخرج فيه مئات الرهبان قبل اندثاره عام ١٧١٥، وتعد مدرسة صدد واحدة من٣ مدارس في الألحان السريانية ..

ويقول فيليب دي طرزي قبل نحو قرن ونصف: ((إن جماهير و افرة قدمت إلى لبنان من النبك والقريتين ولاسيما من صدد)) ، وفي هجرة داخلية ،((راحت الفئات النشيطة تبحث عن الرزق، وأخذوا يشيدون المزارع والقرى ، التي امتدت حتى حدود السلمية – حماة. ويعدد الفيكونت / طرزي/ في كتابه/ أصدق ما كان في أخبار السريان / هذه القرى وهي : زيدل ، فيروزة الـحـر ، مسكنة ، الفرقلس الفحيلة ، أم دولاب ، الـجـدَيدة ، الجـابـريـة ، المـنزول ، الـقـمـة ، الشعيرات ، الـعـالـيـات ، المـزهـريـة ، المشــرفة ، فضلاً عن النـبـك والقريتين، وامتدت فروع أبناء صدد إلى المدن السورية ولبنان ، وأصبحت صدد أماً لهذه الذراري التي أطلق على أهلها صـدديون أو صـدّيون، وهناك المزارع التي استوطنها الصدديون ثم تركوها وهي : تـل زبيدي ، فـرتقة ، أبو داليا ، حسيا…))

مكانة صدد في العراقة، تتأتى أيضا من كونها واحة نضرة تطل على البادية السورية ، وقد استنبتت التراب والعقول…بتحدٍّ فريد….. ، فأعطى سكانها، وهم أحفاد الغساسنة والآراميين وأحفاد تغلب، على مر العصور شخصياتٍ فذّة ومساهمات مجتمعية وفكرية، وعراقة التاريخ والعمران، طرزتها صدد ، بريادة اجتماعية تنويرية ، في المنطقة ، فجذبت أبناء الجوار ،حين مَحت الأمية ، تحت النير العثماني وبجهدٍ أهليّ ، بين الشباب ،ثم بين النساء قبل الاستقلال، وبعده حيث افتَتحت إعداديتين، فثانوية خاصة ، وحين شهدت مدينة كوهوز – نيويورك عام ١٩١٤ مبادرة مجتمعية رائدة ، لنفر من أبنائها المغتربين للتو ،حيث أسسوا جمعية “زهرة الإحسان” ومن عاد منهم بادر لتأسيس جمعية “نور الإيمان” ١٩٢٢ ، قبل أن تشهد ١٩٤٠ تأسيس ثاني جمعية تعاونية زراعية في سورية ، بعد جمعية دير عطية ، فيما راحت تشهد حراكا فكريا وتنظيميا على نحو مبكر، منذ أواخر الأربعينات ، في حين ، تردد صدى جمعية نيويورك بعد نحو قرن ، عبر ،،الجمعية الصددية في كاليفورنيا،، و،،جمعية القرى الصددية الآرامية في ألمانيا وأوروبا،،…

حادثة بالغة الدلالة عام ١٩٠١م:
يروي أ.موسى عبود عبر صفحته على الفيسبوك نقلا عن الباحث التاريخي (محمد قجة) رئيس جمعية العاديات بحلب ، قوله في محاضرة عن بلدة صدد : إن الحادثة مدونة في متحف اللوفر الفرنسي لما لها من الأهمية [الدلالية الفكرية والمعتقدية ] ، تقول الرواية:
((أنه جاء 4 من المستشرقين الى منطقة صدد ،اثنان أميركان، واثنان انكليز، وصادف ذلك يوم أحد… أراد هؤلاء أن يذهبوا الى الكنيسة لأداء الصلاة، وعندما وصلوا الى باب الكنيسة سألوا أحد المارة لمن تعود هذه الكنيسة ؟ فأجاب بأنها تابعة للطائفة السريانية الأرثودكسية،فسأل أحدهم من المسؤول عن هذه الكنيسة ؟ فأجاب إن الخوري أو لجنة الكنيسة ، فطلب مقابلة أحد منهم، فاستدعى عضوين من اللجنة فسألوهما:
هل تسمحا لنا بالدخول إلى الكنيسة لأداء الصلاة ؟ فقالا لهم تفضلوا هذا بيت الله مفتوح للجميع ، قال أحد المستشرقين نحن نتبع للطائفة الإنجيلية :فهل هناك ما يمنع ذلك ؟ فأجاب لماذا تسألون هذا السؤال فقال[ المستشرق ]:
نحن نعلم أن العادة لا تسمح إلا لأهل الطائفة ، وإذا دخل أحد لا ينتمي الى الطائفة يقومون بكرازة الكنيسة بعد خروجهم ، ومنهم لم يسمح لمذهب آخر بالدخول !!، فقال أحد أعضاء اللجنة :
هذا بيت الله لا أحد يستطيع أن يمنع إنساناً… من الدخول إليه ، ونحن في ،،صدد ،، نستقبل دائما جميع الذين يحبون الصلاة ، حتى من المذاهب الأخرى كالإسلام وغيرهم ، وهذا معروف عن بلدة صدد ، حياكم الله يا إخوتي وعلى الرحب والسعة ، دخل المستشرقون وأدوا الصلاة مسرورين شاكرين لأهل بلدة صدد هذه المبادرة الطيبة …))

إنها عراقة ، بل ومتجذرة ،في أعماق الحضارة السورية ، وقد تواصلت في عيش الإخاء ، على وقع تناغم نواقيس كنائسها مع مآذن الجوار ، لا بل هي عراقة متجددة ولآفاق رحبة ، حين تكون شعارات مهرجاناتها تحايا إلى حلب عاصمة الثقافة الإسلامية ٢٠٠٦ ، وإلى دمشق والقدس عاصمتي الثقافة العربية ٢٠٠٨و٢٠٠٩، وإلى،، أهلنا في الجولان،، ٢٠١٠ ..، وحين صدح صوت وديع الصافي في فضائها ، وحاور شبابها وفتياتها، حنا مينا ، ونبيل سليمان ، وبسام كوسا، وغسان مسعود، ووئام وهاب، وميخائيل عوض وغيرهم ، أو حين أمّها شعراء وأدباء من أصقاع سورية ، ويوم أطلق شربل روحانا العنان لأوتار عوده في ساحة برجها ، قبل أن تستضيف داعية إسلامياً، ألا يراكم ذلك عراقة إنسانية فذة؟.

إنها عراقة، بل ومتجددة ، برؤية نافذة لآفاق مستقبلية ، جسدها ملتقى النحت،٢٠٢١ عبر دعم المغتربين والتعاون بين مطرانية حمص للسريان الأرثوذكس ، واتحاد الفنانين التشكيليين عبر تطوع 11 فنانا، بإدارة الفنان حسان حلواني ، فيما تبرعت المؤسسة العامة للجيولوجيا بالكتل الحجرية ، والنتاج ١١ منحوتة بارتفاع ٣- ٤ أمتار، وهو ما يؤكد أن فكرة إعادة بناء برج صدد ٢٠١٥، وفق ما أنجز من تصميم وظيفي – تاريخي بالاستفادة من أحجاره المتناثرة ، تشي برؤى ريادية نافذة ، من عمق التاريخ إلى آفاق الغد، بدليل ما لاقته من حماس كثيرين ، مقيمين ومغتربين، وخاصة وسط الشباب ،فضلا عن ترحيب البلدية والآثار، ليتهم يواصلون ولا يفقدون الحماس، حتى تجد الفكرة – المشروع ، سبيلها إلى التحقق ، بما يجسد تواصل الماضي بالحاضر والمستقبل ، ولعل من يبادر إلي تأسيس رسمي ل(رابطة أصدقاء صدد العراقة) لتهتم بما يضمن تواصلها، هي فكرة أودعتها أصدقاء ، متحمسين مبادرين ، وتكرارا ، المهرجان ، احتفالية أبي فراس الحمداني ، وترسيخ علاقته بصدد، كما ملتقى النحت ، كلها مرتكزات لما هو أكثر جدوى ، و،،إعادة بناء البرج ،، عنيت ، لتبقى العراقة ،أمانة متداولة من جيل إلى جيل ، فتزداد رسوخا في كل مناحيها …..
========

بقلم الإعلامي سعد الله بركات

*الصور : البرج القديم ، تصميم إعادة بنائه، منزل، جدارية مار سركيس، كنيسة الخضر من الداخل والخارج.. لوحة تاريخية …

..المصادر:
* كتاب ،،اللؤلؤ المنتضد في تاريخ صدد،، لمؤلفه الخوري إبراهيم دنهش حلب١٩٦٠.
*كتاب رحلة فتح الله الصايغ الحلبي ..
*كتاب ،،أصدق ما كان في أخبار السريان ،، لمؤلفه فيليب دي طرازي.
*صفحات صددية ، سريانية ،ومواقع معرفية .
*موقع الحفر الإلكتروني.
*برنامج أجراس المشرق المتلفز للباحث الإعلامي اللبناني غسان الشامي.
*متابعات د، روضان عبد اللطيف التاريخية والأدبية ، والباحث في التراث اللامادي م. نائل الحي.

عن الكاتب

جريدة حمص

جريدة حمص أول صحيفة صدرت في مدينة حمص – سوريا عام /1909/ عن مطرانية الروم الأرثوذكس لتكون لسان حال المدينة.

تعليق واحد

  • كل الشكر لجريدة حمص الغراء ، ولجهود اسرتها اللافتة باستمرارها ، وعلى نحو خاص لانها تكرمت وافسحت فرصة الأطلالة عبرصفحاتها ، بمقالات في الادب او عن بلدتي صدد

اترك تعليقاً