آراء حرة

بين التَّرميز والسِّياق.. ضالَّةُ العقل

أول سؤالٍ وجَّهتُهُ لنفسي عندما أردتُ الكتابة عن محاضرة المطران متّى الخوري، في الكنيسة المشيخيَّةِ الوطنيَّة، بعد أن كنتُ كتبت عن محاضرة المطران غريغوريوس خوري الَّتي سبقتها بأسبوع، هو:

“ألا يبدو هذا وكأنَّهُ تكرار قد يحمِلُ شيئا من المجاملة؟!”

وكعادتي أخذتُ وقتا لِلتَّفكير في الأمر انطلاقا من حرصي، ليس على نفسي ولكن على العقل، وعلى مهمَّتي الَّتي وهبتُ نفسي لها، وهي “إعمالُ هذا العقل، لا إهمالُه”

هذهِ المقولة قادتني إلى واجبي الّذي يجب أن يتخطّى مهابة الخوف من التعرُّضِ للنَّقد، إلى تحويلها لمجرَّدِ خشيةٍ لا بُدَّ من التَّعاطي معها بتَفَهُّمٍ وموَدَّة. ولِمَ لا فالأصل بالنَّقد رغبة المنتقدِ بأن يرى الأمور أفضل، برغم ضلال بعض المنتقدين إلى التَّجريحِ أو المجّان، ولكن دعوني أقول أنَّ هذا وذاك، هما من الأمور الّتي يجب تفهمها وقبولها، لا بل والرَّدُّ عليها بالفكر.. فلا يَبُزُّ الفِكرة سوى الفِكرة. لذلك قرَّرتُ أن أكتُبَ طالما أنَّ هناك ما يستحِقُّ الكتابة والإضاءة في محاضرة سيادتهِ، وخاصَّةً وأنَّ نقاشا جميلا تبعها جمعني مع القس نعمان، ما تسبَّبَ باستكمال حلقاتِ فكرة كان لا بُدَّ لي إذا من الإضاءة عليها، ومن جمعِ أطرافها أيضا.

إنَّ المطران المتواضع متى الخوري بدأ حديثهُ ما أن وقفَ على المنبَر، بتوجيه الكلامِ إليَّ قائلا “أنا لستُ من أهلِ العلمِ، فاعذرني لأنّي رجلٌ روحانيٌّ وسأتَحدَّثُ بروحانيَّتي” ثُمَّ بدأ بمداخَلَتِهِ الَّتي استمرَّت أيضا زهاء أكثر من نصف ساعةٍ وأقلُّ من ساعة، تماما كما كان المطران غريغوريوس قد فعل، وفي هذا بدايةً ذكاء ودراية علميَّة، حيث يُدرِكُ المُتَحَدِّثُ أنَّ هذا الحيِّزِ الزَّمني هو الأنسب لإلقاء محاضرة مع الحفاظ على اهتمام ومتابعة الحضور، ثم يأتي بعضُ المحتوى الفكري للمطران نضحَاً من خلال حديثِهِ الّذي كان بالفعل حديثا إيمانيّا روحانيّا، ولكِنَّهُ أخبرنا عن موقعِ قائلهِ بين ضفتي العلم والروح..

في مُعرضِ حديثِه اللاهوتي مرَّ الخوري على أكثر من جملة أو صياغة لحادثة من الإنجيل بعهديه، وكان لهُ تعقيب مهِمٌّ بعد مروهِ ذلك على كلِّ فكرة، فأوردَ هذهِ الآيات من الإنجيل:

“فإن أعثرتكَ يدُكَ أو رِجلُكَ فاقطعها وألقِها عنك، خيرٌ لك أن تدخُلَ الحياة أعرجَ أو أقطَعَ من أن تُلقى في النَّارِ الأبديَّةِ ولكَ يدانِ أو رجلان” (متى 18:8)

“وإن أعثَرَتكَ عينُكَ فاقلعها وألقِها عنك، خير لكَ أن تَدخُلَ الحياةَ أعورَ من أن تُلقى في جهنَّم النَّار ولكَ عينان” (متى 18:9)

ثم قال “طبعا المعنى هنا رمزي، ولا يعني أن نقلع عيننا بالضَّبط، أو نقطعَ أطرافنا، ولكن أن نُقلِعَ عن ما يسيء لنا فيها” فمعنى قلع العين هنا هو محاربة الشَّهوةِ والتَّغلُّب عليها، ومعنى القطع هو مواجهة ضعفنا، لاستنهاض القوَّةِ الكامنة فينا، لأنَّ هذا هو ما يُرضي الله إمانيّا، وهو برأيي ما يسعى له كلُّ مفكِّرٍ أو عالمٍ أو فيلسوف عقليّا.

بعدَ ذلك مرَّ المطران متى خلال حديثِهِ على عددٍ من الآيات أو القصص من الإنجيل تحتوي كلاما من هذا النَّوع “الرَّمزي” مثل القول بأنَّ “من أراد الوصولَ إلى كنعان لا ينام” مُعتَبِرا أنَّ هذا السَّهرُ المذكور هنا هو أيضا سهرٌ رمزيٌّ، يعني بذل الجُّهدِ وعدم الاستكانة واستنفار طاقات الجسد، فهو قويٌّ كفاية ليستيقظ بالعقل، تماما كما هو ضعيف كثيرا إذا غَفِلَ عن ما فيه من مقدرات.

تكتَمِلُ صورةُ العقل العلميِّ لدى المطران متى عندما يتحدَّثُ عن الصَّوم بصفَتِهِ الّتي تمَّ التّأكيدُ عليها في الأسبوع السّابِق “وسيلة وأداة، وليس هدفا بحدِّ ذاته” ثم ذهبَ أبعدَ من ذلك بخطوة جميلةٍ جدّا وفلسفيَّةً جدّا عندما قال أيضا ردّا على أحد المُسنّين الّذي سأل عن بعض أنواع الطّعام، فقال:

“خفف عنك يا عم، أنا لا يهمُّني نوع الطَّعام الّذي تمتَنِعُ عنه، ولكنَّ ما يهمُّني أن تحرِمَ هذا الجسد، لا بل وأن تُعطي ما تحرم نفسك منه للآخرين”

لعمري ليس هناك فهمٌ أكثر علميّة ووجدانيّةً من هذا الفهم لِلدّين ولِمقاصِدِهِ الَّتي صاغتها البشريَّةُ على مرِّ آلاف السنين انطلاقا من تطويعها العقلي الإدراكي، لدوافع الدين التي ارتكزت بداية على الطُّقوس كطريقة للعبِ الأدوار، أكثر منها رغبات سامِيَةٍ لتحسين حياة الناس، ودفعها للأفضل، وربَّما كانت المسيحيَّة إحدى أهم تلك المحطَّات التي جاءت بعد مسيرة طويلة من “الدين” لتقول بأنَّ إعمال العقل لمصلحة الإنسان هو ما يجب أن تكون عليه غاية الدين، وليس تأطير النّاس في طريقة ومفهوم ورسالة واحِدة، أو إجبارهم على ذلك.

كان الحديث والنِّقاش الّذي دار بين سيادة المطران والحضور قد تطرَّقَ لحادثةٍ من العهد القديم، والَّتي أثارت أسئلة لدى بعض الحاضرين أكثر مما أعطتهم أجوبة، وهذا وإن بدا كنقطة “إحراج” في جو المحاضرة، إنَّما أنا أجده تعبيرا عن جو الانفتاح والمرونة في طرح الأسئلة حتّى فيما يَظُنُّه البعضُ “نصّا مُقَدَّسا لا يُمكن النِّقاش فيه” إذ لم يكُن ثمَّةَ رفض لطرح سؤال استنكاري عن معنى تلك الحادثة، والتي ليس سياق البحث فيها هنا في هذه الأسطر، كما أنَّهُ لم يكُن في المحاضرة، ولكنَّ ما وصلنا كحضور ومتابعين، أنَّهُ لا بأس لدى المطران متى بأن يكون لدى النّاس رأي في هذه القصة أو تلك، كما أنَّهُ لا بدَّ من وجود فهم مختلفٍ بين النَّاس لكثيرٍ من النُّصوص والآيات، لا بل يجب علينا الانتباه إلى حقيقة كون كل نص أو فكرة قابل لأن يتمَّ التَّعاطي معه من عدَّة زوايا وجهات، وقد تبدو هذه الحادِثة مُلهِمة من زاوية، ومُحبِطة أو غير موفَّقة من زاوية أخرى.

في النّهاية وعقب انتهاء المحاضرة وعندما خرجنا لِدَردشةٍ في ساحة الكنيسة الّتي لطالما احتضنت أنشطة وفعالياتٍ مجتمعيَّةً وثقافيّةً، وجدتُني في وقفة سريعة للحوار مع راعي الكنيسة القس أدون نعمان، وكان لا بدَّ لنا ونحنُ نتجاذب أطراف حديثِ الجلسة الَّتي كنا قد غادرناها للتَّو، من أن نمُرَّ على نقطة الرَّمزيَّة في النُّصوص الدّينيَّةِ التي كانت من سماتِ المنهج المنطقي للمُحاضِر، والَّتي تبادلنا التَّأكيد على موافقتنا عليها وإعجابنا بها، دون أن نُهمِلَ الحديث عن ما فتحته الجلسة من سؤال حول قراءة العهد القديم، وخاصَّةً بما فيه من روايات وقصص تحمل طابعا يبدو بالنِّسبةِ للكثيرين وكأنَّهُ لا ينسجِمُ مع فكر المسيح نفسه، ناهيكم عن روح العصر.. وهنا أكَّدَ القس نعمان على أنَّهُ يميلُ إلى النَّظرِ إلى تلك الروايات ضمن “سياقها التَّاريخي والاجتماعي” أي أنَّهُ يعتبر أنَّ “صياغة هذه الحادثة أو تلك، ضمن نص دينيٍّ ما، هي تعبيرٌ عن فهم النَّاس لها ضمن الزَّمن الَّذي كُتِبَت فيه”

هكذا إذا أجدني في أمسية شيِّقةٍ كهذهِ الأمسية، وبرغم أنَّها كانت تميل إلى الروحانيَّة والحديث الإيماني، ولكنَّها لكون المتحدِّثَين فيها كانا قد جالا جولةً وجدانيَّةً بالفعل، إنَّما عَبَّرَت عن عقليَّةٍ متوازنة تقترِبُ كثيرا، وهي تحاوِلُ ملامسةَ مقاصِدِها، من مقاصِدِ العلمِ وأهلِهِ.. أجدني قد وقعتُ على لُقيتينِ على الأقل من لُقى الحرص الإنسانيٍّ على العقل وعلى المنهج الصَّحيح فيه، وهما الرَّمزيَّةُ في فهم النُّصوص الدِّينيَّة من جهة، ووضعها ضمنَ سياقِها التّاريخي والاجتماعي الّسّياسيِّ من جهة أخرى.

وعندما أقول “منهجا صحيحا” لا أقصِدُ أنَّه ينطوي على كلامٍ صائبٍ دائما، ولكنَّهُ يتَّخِذُ لنفسِهِ مذهبا مستمرّا لإعادة تصحيح ذاته وأفكاره، لِتكون صحَّتُهُ نابعةً من تسليمه بالتَّغيير وإعادة القراءة والفهم، وليس بالتَّشَبُّثِ بما كان قد قاله من قبل.

يزيد جرجوس

اترك تعليقاً