آراء حرة

“هشاشة الرَّأي العام”
أفكارٌ وَعِبَرٌ في حَديثِ راهِبة

“يسوعُ المسيح لَم يُعطِنا مُسَكِّنا لِلألم، وَلكِنَّهُ قَدَّمَ لَنا معنى لهُ”

كانت هذه المقولة المنقولة عن أحد الكتَّاب العالميين، وكأنَّها البداية لرحلة قصيرة وشيِّقَةٍ مع الراهبة جيزيل قديد في إطلالتها كَمُحاضِرة في الكنيسة المشيخيَّة الوطنيَّة، تلك الكنيسة المتموضِعَةُ عند نهاية حي بستان الدّيوان، متَّكِئةً على حي باب الدّريب المجاوِرِ له، قبالة جامع (الشيخ جمال الدين)

صّعدَت الأخت جيزيل إلى المِنبَر، واتَّخَذت مَوقِعَها جُلوسا خلفَ طاوِلّةٍ كانَت قد أعِدَّت لها خِصّيصا، لأنَّها كما وَضَّحَت تُعاني من آلامٍ في الظَّهر تحولُ دون تمَكُّنِها من الوقوف لفتراتٍ طويلةٍ على عادةِ المُحاضرين. ولكِنَّها على ذلك تمَكَّنَت من الوقوف أمام ألبابِ الحاضرين، وَمِن ثمَّ استطاعَت دفعَهُم للانصات لها بعنايةٍ وتفاعُلٍ وصل بهم إلى الإجابة بشكلٍ جماعيٍ عن أكثرِ من سؤالٍ طرحَتهُ الأخت عليهم بصورة استطراديَّة مَرِنة، لا بل إنَّهُم شاركوها في ترنيم بضعة كلماتٍ من عدَّةِ ترنيماتٍ مرَّت على ذكرها خلال حديثها، ولكِن بطريقة مُحَبَّبة، حيثُ قامت بتوظيف الإلقاء واللّحن المخفَّف مع الكلمة، لتُحّقِّقَ وصولا أكبر لما تُريد.

إنَّ تلك المقولة الّتي تتحدَّثُ عن “حقيقة ما قدَّمَهُ يسوع للنّاس” بالنِّسبة لمجموعة من النّاس وأنا منهم على كلِّ حال، تبدو وكأنّها الدَّرسُ والعِبرةُ والمَنهَجُ، فكما يقول محمود درويش:

“إنَّ الطَّريق هوَ الطَّريقة”

أراني أفهَمُ من تلك العبارة المُلهِمة، ما يتوافَقُ مع طرحي السَّابِقِ للمسألة حيث كنتُ قد كتبت:

“لا تطلبوا عون المسيح، ولكِن تعلَّموا منه”

حيث حاولتُ غير مرَّةٍ أن أصِلَ بطرحي الفلسفي لفهم رسالة المسيح ودوره في الحياة، على أنَّهُ قدَّمَ الطريقة وعلى النَّاسِ استلهامها لا مُحاولة الطَّلب مِنه مُجدَّدا أن يقِفَ حاجِزا في وجهِ آلامِهم، فكتبتُ عنهُ أيضا:

“ترنوا لهُ القلوبُ المُترَعَةُ بالحُزنِ والأسى

حامِلَةً قرابينَ الرَّجاء والأمَل..

ينشدونَهُ أن يّمُدَّ لهُم يدَ الخلاصِ والمؤازَرَةِ

فيقولُ لهُم.. اصنَعوا كما صنَعت”

من النِّقاط الّتي أثارت اهتمامي في حديث الرّاهِبة كانت أنَّها وَعَقِبَ مرورها على ذكر مثالٍ حياتيٍّ مُبَسَّط، للإضاءة على قيم الصَّوم وطقوسهُ الَّتي يجب أن تسمو بالإنسان، لا أن تتوقف عند “معاناته من الجوع” فنبَّهت إلى قيمة أن نُعطي ما قد نتمَكَّن من توفيرَهُ عند عيش حياة الصَّوم لا أن نَقومَ بِتَكديسِهِ. وفي مُعرّضِ تعليقها على قيام الإنسان بالغناء أثناء أدائه لبعض الواجبات اليوميَّة كأعمال المنزلِ مثلا، قالت أنَّ سيدة تُغَني أغنية لكاظم السّاهر يُمكنُها أيضا أن تَتَغَنَّى بترنيمةٍ ما.. وهنا بدأ شعورٌ من القلقِ ينتابُني أثناء متابعتي لكلام الراهِبة، وبدأتُ أتوَجَّسُ من خاتمة حديثها حول هذهِ النُّقطة بالتَّحديد.. وهو قلق الحريصِ على الاهتمام بالإنسان ككلٍّ مُتكامِلٍ، لا يُمكننا حصره في جانب من الجوانب، ونهيُهُ عن جوانِبَ أخرى، خشيتُ أن تنهى الأخت عن التَّرفيه أو أن تَشجُبَ الفن في سياق حديثها هذا، إلى أن قالت.. “كلاهما جميل.. الأغنية والتَّرنيمَة، ولكني أعتَقِدُ أنَّ الترنيمة ستكون أجمل إذا كُنّا في الصَّوم” فقدَّمت جوابا بدَّدَ قلقي في نفس اللَّحظة.

حكاية أخرى من الحكايا المُلهِمة قدَّمت لها الرّاهِبة مُعَلِّقَةً عليها، وهي قصَّةٌ عن رجلِ أعمالٍ كثير الثَّراء المادي، كان يسعى دون أملٍ للحصولِ على معنى من معاني الرِّضى والسَّعادة، عندما نصَحَهُ أحَدهم بأن يقومَ بالتَّبَرُّعِ بعدَدٍ من كراسي العجزة ذات العجلات، لمجموعةٍ من الأشخاص ذوي الإعاقة فاقدي القدرة على المشي والحركة، وكان أن فعلَ ذلك الرَّجُلُ الثَّريُّ ذلك، وفي يوم تقديم الهديّة كان الرَّجلُ واقفا بين الأشخاص ذوي الإعاقة بعد حصولِهم على الكراسي وفرصة الحركة، عندما ناداهُ أحّدُهُم باسمِهِ، ولكن دون أن يكَلِّمَهُ بعد أن نظَر الرَّجلُ له، فاكتفى بالنَّظَرِ والصَّمت.. وقتها سألَهُ الثَّريُّ عن سبب صمتِهِ، فأجابه المشلول:

“إنَّني أُحاوِل أن أحفظَ وجهكَ جَيِّدا، حَتّى أتذكرك عندما أقابِلُك هناك في الجنَّةِ، لكي أقول لك شُكرا مُجددا”

انظروا معي إلى حجم الأثر الّذي تركَهُ منح المحروم إمكانيَّةَ تجاوُزِ الحرمان، فصارَ يُريدُ أن يُقَدِّمَ عرفانَ شُكرِهِ مَرَّةً أخرى هناك “أمام الله” كما يؤمن.. ويا لهُ من تكثيفٍ هائلٍ للمَعنى.. إنَّ الرَّجُل قد حصلَ على العاقِبَةِ مرَّتين.. فغَمَرَتهُ السَّعادَةُ مُضاعَفَةً كما قامَ هو بإسعادِ الآخرين.

هكذا أعطَت الرّاهِبة للحاضِرينَ عِبَرا كثيرةً عندما اصطَحَبتهُم للوقوف معها عند أكثرِ من مَحَطَّةٍ هنا وهناك، مُستَخدِمةً القِصَّةَ والأثر، لتنتَقِلَ بعدَ ذلِكَ إلى ما هو أكثرُ عُمقا.. ألا وهو علم الاجتماع.

أحد الشَّعانين وهشاشة الرأي العام

في مقاربة بليغة فكريا صنعت الأخت جيزيل من حديثها عن حادثة “دينيَّةٍ” لطالما أعيد الحديث عنها كل عام بوصفها كذلك (وهي ذكرى دخول المسيح إلى القدس قبل إعدامِهِ بأيَّام)، دون أن يَتِمَّ الخروج عن مساحة وصفعا الشعائري كثيرا، الأمر الّذي فعلته الرَّاهِبة عندما اتَّخَذت من بعض تفاصيل الحادثة، منبرا لحديث في علم الاجتماع، يستلهِمُ العبرة، ولكِنَّهُ يقوم بالتَّنبيهِ والتَّوجيه أيضا. حيث شرحت بلغتها وبطريقتها كيف أنَّ جموع سكان المدينة الّذين استقبلوا يسوع المسيح يوم الأحد بسعفِ النَّخيلِ مُحتَفلينَ بهِ، فارشين مآزِرًهم على الأرض لِيَمُرَّ المعلِّمُ فوقها سهلا، هم أنفسُهُم كانوا بعد أربعةِ أيّامٍ يُطالِبون بإعدامِه.. إنَّها المفارقة الأشَدُّ ألما والأكثر إلحاحا على العقل الواعي من أجلِ التَّأمُّلِ فيها ومُحاولة سبر دوافعها واحتمالاتِها، خدمة للمصلحة العامَّة قبل كلِّ شيء، حيثُ قامت الأخت جيزيل بتوصيف ذلك على أنَّهُ “هشاشة في الرأي العام” مُنَبِّهَةً لضرورة الوعي والسَّعي والتَّبصُّر.. وهذا ليس حديثا دينيّا على كلِّ حال، ولكِنَّهُ موقفٌ إنسانيٌّ وعلميٌّ مُستَحِق، وقد ذكَّرَني بقدرة شاعِرِنا العظيم أبو الطَّيِّب المُتَنَبّي في أخذ الفرصة من مناسبة اجتماعيَّةٍ ما برغمِ ما فيها من حزن وألم ومشاعِر، لتحويلها إلى منبرٍ لإلقاء جرعة من الفكر والتَّنوير، كما فعل مثلا في رثائه لوالدة سيف الدَّولة، حيث قال في قصيدته تلك:

نُعِدُّ المَشرَفيَّةَ والعَوالي . . وَتَقتُلُنا المَنونُ بِلا قِتالِ

وَما التَّأنيثُ لاسمِ الشَّمسِ عيبٌ . . ولا التَّذكيرُ فَخرٌ لِلهِلالِ

يزيد جرجوس

3.5.2024

اترك تعليقاً