منوعات

وداع..

كانت وداد تسير على الرصيف المجاور للمقبرة بخطوات لا يمكن وصفها.. خطوات تبدو مفعمة بالثقة، ومكبلة بالتردد. كان رأسها مرفوعاً، ولكنها تبدو منكسرة حتى التحطم.. تحضن تلك الباقة من الزهور، وكأنها طفلها الرضيع الذي يحتاج إلى كل لمسة منها، ويقتات على دفء روحها.. بينما تتقدم خطوة خطوة باتجاه باب المقبرة..

تخيلتُ وقتها أنني وأنا جالس على شرفتي المريحة المطلة، وكأنني قادر على شم عبير تلك الأزهار المنتقاة بعناية الوالدات، والزاهية باندفاع العاشقين.. ولكنه حقيقة كان عطر التشكيلة الواسعة من الزهور والورود التي تتسلق حواف سور منزلي، حتى تلامس أطراف الشرفة المتدلية بين الأشجار العتيقة. ففي ريفنا وبلداتنا هناك في كل منزل شجرة أو أكثر، تعيش قبالة باب المنزل كالحارس، أو كفرد حريص من أفراد العائلة، لدرجة يفضل فيها البقاء في مدخل الدار.

كنت يومياً أراقب وداد وهي تذهب إلى المقبرة لزيارة بدر.. وكان من المنطقي والمؤلم بالنسبة لي ذلك المشهد المتخم بالأحاسيس، لعروس استشهد عريسها في الأسابيع الأولى من رحلة زواجهما، التي كان يفترض لها أن تعيش طويلاً، حتى جاء الواجب وقطف ثمرتها باكراً جداً.

في ذلك الصباح كانت وداد تضع غطاء خجولاً على رأسها، على غير عادتها.. الأمر الذي دفعني للمزيد من التأمل في المشهد الساحر، لصباح من صباحات بلادنا، حيث تلامس أشعة الشمس عند شروقها يومياً، جباه المتعبين، وتقبل سواعد العاملين باجتهاد يفتقر إلى العاقبة، فتضيف رونقاً أحياناً لمشهدهم المتكرر، وعبءاً إضافياً أحياناً أخرى.

إن شاعراً يعيش وحيداً مثلي منذ عقود، قد لا يستطيع فهم الطقوس الاجتماعية المتمثلة في ممارسات تبدو وكأنها ترتب نفسها بنفسها، فيما ينصاع لها الناس الذين كانوا هم قد ابتكروها، في رضى وتشبث عجيب. برغم أني كنت أتلقى الكثير من الإطراء والمجاملات عند كل قصيدة أنشرها، وفي نهاية كل أمسية أقدمها، ويتحدث الناس فيها بإسهاب عن “قدرتي على التعبير عما يحسون به، وأكثر”.. بالفعل إن مراقبة الحلبة ليست كالوقوف عليها.

بعد قليل وصلت عائدة كعادتها التي تشبه الطقس أيضاً، في تكرارها وفي مدى الالتزام بها، ذلك الذي يعطيها من القيمة ما يضعها في مكان قريب من العبادة في أذهاننا. عائدة تعد لي الطعام منذ ثلاثين سنة، بعد أن توفيت والدتنا وتركتني في رحاب عناية أخت كانت كما لو أنها الوالدة والابنة والرفيقة.. نعم، لقد كنت أمازحها دوماً بلقب “ثلاثة بواحد”، وهي تبتسم بفخر كثيراً، وبحسرة أيضاً.

قالت عائدة وهي ترتب بعض الحاجات في الغرفة المطلة على الشرفة حيث كنت جالساً “اليوم سوف يسفرونها مع عريسها الجديد.. يعيش في أبو ظبي، هناك أفضل لها”!! كلمات قفزت معها باقة الزهور مجدداً إلى مخيلتي، ولكنها كانت ذابلة هذه المرة.. ومنديلها الذي كان يغطي رأسها، وقد بدا ينحسر عنه خطوة خطوة.. أردت التأكد من أختي، عمن كانت تتحدث، ولكنها تابعت.. “وداد ابنة أبو قصي”..
“الحي أبقى من الميت” تابعت عائدة همهماتها اليومية، دعاؤها المتكرر لكل الناس ربما، لكثرة ما تعيد وتنوع فيه.. بينما أنا عدتُ لخيوط صباحي الأول..

لقد كانت ترخي ذلك المنديل ارتباكاً وخجلاً منه ربما.. فبدر كان هناك في الصباح، يلوح لها مودعاً.. وهي كانت تقول له كلماتها الأخيرة.. لقد اختارت أن تهديه باقة من الزهور تحديداً، لتعطي ذلك اللقاء الأخير عبيراً مميزاً، وعبقاً يحسن من شروط الاعتذار.

نعم إن حق البدء بمشوار جديد، مكفول دائماً بعد الوفاء، ولكنه دائماً يسير متعباً وهو يحمل الذكريات والمشتركات، فيتعثر وينهض، ثم يتعثر وينهض من جديد..

في مساء ذلك اليوم، كانت وداد ما تزال تمر في مخيلتي، مرور الذكريات وكل القصص الجميلة التي عشتها، بينما كان بدر يستقر في ذاكرتي وكأنه الأرض والقمح والثمرُ.. العشاق أيضاً يرحلون عندما تدق ساعة الوقت الثقيل، وعندما تنتهي الطرقات السالكة، وتنتهي مياه النهر. كانت خلاصة ذلك الصباح قاسية جداً علي، وأنا أدخل في تفاصيلها، فطقوس الوداع الرهيب، تأكل منا دون أن تشبع، خاصة عندما نكون على أهبة الاستعداد للألم.

عندما أمسكت قلمي بعد العشاء لأكتب، كان شخص آخر يطرق باب عقلي، وكأنه يعاتبني على غيابه من المشهد الذي كنت أهم بكتابته.. ماذا عن الرجل الذي رحلت وداد معه أو إليه ذاك المساء.. هل سيكون وطناً آخر في الغربة..! ربما.

يزيد جرجوس

اترك تعليقاً